على هامش معرضه الأخير في دمشق: تحيّة إلى الحصان الأسير يوسف عبدلكي
[wpcc-script type=”66d20dd746453a8fcd8e5bf1-text/javascript”]
جدّي عبدالكريم الضحاك كان مدير المركز الثقافي في مدينتي سلمية قبل اعتقاله ليقضي اثني عشر عاما في سجون النظام السوري، وأثناء وجوده على رأس عمله كان المركز الثقافي في سلمية رائدا، ليس فقط على مستوى سوريا إنما على مستوى الوطن العربي، ففيه قرأ الشاعر مظفر النواب قصيدة «وتريات ليليّة» للمرة الأولى، والتسجيل الأول لتلك القصيدة التي سكنتنا طويلا كان في مدينة سلمية.
قرأ في ذلك المركز المتواضع الكثير من الشعراء والكتّاب والمفكرين ومنهم، صادق جلال العظم وممدوح عدوان وعلى الجندي وآخرون، ومن الأحداث المهمة التي أقيمت هناك، معرض مشترك لفنانين سوريين من بينهم الفنان يوسف عبدلكي، الذي كان معتقلا حينها، لكنه هرَّبَ من سجنه تمثالا لرأس حصان مصنوع من الخبز والسكر ورماد السجائر، وضعه جدي في صندوق زجاجي كبير ليتوسط المعرض الذي حمل عنوان: (تحيّة إلى الحصان الأسير يوسف عبدلكي) كتبت الصحافة عن المعرض وصوّر التلفزيون الحدث ممثلا في الحصان في القفص الزجاجي والعنوان الكبير على بوابة المركز الثقافي، ولم يعرف أحد أن صاحب الحصان كان معتقلا في سجون النظام السوري. بعدها بأيام قامت الدنيا ولم تقعد بعد أن اكتشف المصفّقون من عناصر المخابرات والأمن وحزب البعث أن من صفّقوا له يقبع في سجونهم، لأنه قال: لا . في زمن لم يجرؤ أحد فيه على الهمس بها، استدعي جدي إلى التحقيق عدة مرات وتمّ طوي القصة شريطة أن يتم وضع اسم يوسف عبدلكي في قوائم الحذف والنسيان.. بعد سنوات حصلت على فرصة حضور معرض ليوسف في دمشق، لم أكن أعرفه بعد، وقفت ذاهلة أمام لوحة العصفور والسكين وأمام لوحة السكين المغروز في خشب الطاولة وقد كتب عليه (stainless) وسألته معتقدة أن المكتوب على السكين يخرّب البعد المجازي للّوحة: لماذا كتبت ذلك على السكين؟ أجاب بمنتهى البساطة: لأنها كانت مكتوبة على السكين، بقيت أفكّر بجوابه طويلا بقيت أرتعد من ذلك السكين في كوابيسي، كان يجب لتلك الكلمة المكتوبة عليه أن تطمئنني، لكنها أضفت على السكين رهبة مضاعفة، السكين الذي نقطّع به الخضار والفاكهة هو نفسه الذي تُرتكبُ به جريمة قتل مروّعة، العصفور الميت قرب السكين هو عصفور ميت فقط، هكذا كانت الظلال تحمّل دلالاتها ورؤيتها للموت والحقيقة. تعرفت على يوسف عبدلكي أكثر وتعلمت منه الكثير واختلفت معه أحيانا، كان يوسف مسيحا يجرّ أحلامه المصلوبة الدامية، يحاول أن ينفض الاستبداد عن أجنحة البلاد، يحاول أن يقاوم بكل ما في روحه من رقّة وصدق، لكن كما قال يوما محمد الماغوط: ماذا تفعل الغزالة العمياء بالنبع الجاري؟ والبلبل الأسير بالأفق الذي يلامس قضبانه؟
في عام 2013 جلست في مرسم يوسف عبدلكي أتأمّل سمكةً عملاقة تتخبّط في ظلال الفحم على اللوحة الكبيرة وسمكة بحجم الإبهام ميتّة على الطاولة، نهض يوسف وأعطاني أوراقا فيها رسوم تجسّد فتياتٍ عاريات، في البداية قلت أنا مع السكاكين والسمك والعصافير، ثم فجأة استدركت: يا إلهي ما أجمل هذه البدايات.. سنرى الأنوثة تنضح من بين الفحم والظلال، وانتظرت المعرض لكن الأقدار ساقتني لأكون لاجئة في ألمانيا، الآن في 2016 تمرّ صور لوحات الأنوثة والظل أمامي على فيسبوك تمرّ صور يوسف بحاجبيه العنيدين وينبض قلبي هناك في دمشق التي لا أستطيع الوصول إليها، تصير البنات في اللوحات بلادا نحيلة وكئيبة، يصرن صورا لمآلات الأنوثة في هذا العالم، صورا تعكس الانكسار دون تكلف، دون مجاز، الحقيقة بين أصابع الفنان، لم أكن أتصوّر أن ينال المعرض ردّ فعل عنيف قارب التخوين والشتم. قلبي مثل قلوب كل السوريين البعيدين الذين يشاهدون انكسار حلب عبر الشاشات ولا يستطيعون شيئا، قلبي محطّم تماما، لكن هل نحن مكسورون لدرجة لا نملك إلا أن نحتجّ على معرض لوحات الفحم في دمشق؟ أعلم أن يوسف منذ وقت طويل يجهّز لهذا المعرض وقرأت الإعلان عن افتتاحه قبل أن تقع كارثة تسليم حلب بوقت ليس بقليل، لكن ما هي المشكلة مع المعرض؟ هل كان عليه أن يغيّر توقيت المعرض؟ لقد اعتبر البعض، وعلى رأسهم المعارضة الجافّة، أن إقامة المعرض في هذا التوقيت فيه تلميع لقرعة النظام السوري، من هم الأطراف الذين سيلمّع معرض يوسف عبدلكي النظام أمامهم؟ وهل النظام السوري قابل للتلميع؟ وهل العالم معني حقّا بماهية النظام السوري بعدما عمل جهارا على إبقائه وتمكينه بعد كل الفظائع التي ارتكبها؟ هل ارتكب يوسف جرما كونه اختار البقاء في دمشق وسيدفع ثمن بقائه الصمت وإلا سنخوّنه؟ لماذا على الناس أن تصمت في سوريا؟ موتٌ بائسٌ وقبرٌ ضيّق. يبدو أنّ البعث أحسن تدجيننا، مأخوذون بالنفاق والكذب وأحكام القيمة ورمي المواقف وصكوك الوطنية، ليس منطقيا ولا عادلا أن نعتبر أن حدثا فنيا أو ثقافيا سيسهم في تغيير الأحداث على الأرض، وإن كان البعض قد أخذ موقفا من المعرض مندفعا، لأن الدم في حلب لم يجفّ بعد، فهذا مجحف أولا بحق السوريين لأن الدم لم يجف منذ ست سنوات، ولا توجد مؤشرات لخلاص قريب لذا لا يحق لأحد أن يفرض على السوريين الصمت فوق الموت الذي يرزحون تحته، ولا يحقّ لأحد أن يطالبنا بالنفاق، سنضحك عندما نسمع النكات وسنفرح حين نرقص في عرس وسنزغرد حين نبارك ولادة طفل، وسنحضر المعارض والأمسيات إذا ما أتيح لنا ذلك، هذا لسان حال السوريين، لكن يبقى أن هنالك من يريد المتاجرة بعواطفهم، أفهم أولئك وأشفق عليهم، وأتذكر من عاب على محمود درويش تقديمه أمسيات في سوريا وهي ترزح تحت حكم النظام السوري، أظن أن أمسية لمحمود درويش هي فرصة لا تعوض لمدينة كدمشق، لا شيء يستحق أن تُحرم من أجله دمشق أمسية لمحمود درويش، لا النظام السوري ولا أي شيء، ستبقى قراءة محمود درويش لنصوصه هي الثابت الوحيد.. والباقي زائل بدءا من النظام السوري وليس انتهاء بالجرذان التي تسلقت مكتبتنا وأكلت رأس الحصان المصنوع من الخبز والسكر.
٭ شاعرة سورية
لينة عطفة