«غياب»

رحيل

«غياب»

[wpcc-script type=”b7b791e8209ba6d8a3f3ae89-text/javascript”]

رحيل
عندما قرر في ذاك اليوم مغادرة وطنه لم يكن يعلم ما ينتظره خارجاً، إلا أنّه كان دوماً على يقين تام بأن ما عاد يشهده هنا حتماً سيتلاشى في عالمه المقبل خارج حدود أرضه، تلك التي لم يعد قادراً على رؤية مدى الألم الذي أصبح يسكنها ويطوّقها باتساع تزداد مساحته يوماً بعد يوم.
نحو المكان الذي اختار أن يكون وجهته الأخيرة انطلق، وعند الباب الحديدي وقف، الذي رغم عجزه عن الاحتفاظ بشكله الأول إلا أن قطعه الحديدية المتناثرة في المكان استطاعت أن تبقى الدليل الشاهد على «فرحته» الصغيرة التي كبرت يوماً بعد يوم في هذه البقعة التي فقدت معالمها. وقبل أن يستدير مغادراً سمع صوتاً يُناديه من بعيد «رامي هيا أسرع قبل أن يفوتك طابور الصباح»، تعالت أصوات الطلبة مرددين «موطني موطني» أدرك حينها أنّه وصل متأخراً ولا خيار أمامه سوى الرحيل.

غروب

هناك وفي الركن المقابل للباب اعتادت الجلوس يومياً، فهو الحيّز الصغير الذي ألفته منذ أتت إلى هذا المكان وبات، بمقعده المخصص لشخص واحد، وطاولته الخشبية – التي ساهم عامل النظافة رامي بإسناده لأرجلها على الحائط وتثبيتها بكيس رملي على الاستفادة منها بأكبر قدر ممكن، يشكّل لها تلك المساحة الشاسعة التي عبثاً حاولت اختزال ولو القليل منها.
نحو الباب وبين الحين والآخر تواصل استراق النظرات علّها تلمح من توقعت زيارته، وبين زيارة وأخرى كادت تفقد ذاك الامل، الذي ومع اقترب نهاية اليوم وذهابها لسريرها تذكرت بأنه الشيء الذي ينبغي لها أن تستيقظ له باكراً. صباح هذا اليوم استيقظت تخاطب نفسها بصوت هادئ «حتماً ستأتي حتماً»، ونحو باب الاستقبال حملتها خطواتها المترددة خوفاً من أن تأتيها بما يقتل أملها المتبقي، الذي نجحت بانتشاله والفرار به بينما عجزت عن محاولة إنقاذه.
هناك وقفت وملامح وجهها باتت كفيلة لمن يراها أن تكشف عن السؤال المُختبئ بين أيامها المتتالية، باحثةً هي بدورها عن الطبيب، مَن بخطواته الثابتة المتجهة نحوها بين تلك الجموع استطاع منحها الفرحة التي طالما انتظرت قدومها. عند تلك المسافة الفاصلة بين أملها المتراكم يوماً بعد يوم والإجابة المنتظرة، إذ بشاب يستوقف الطبيب مخاطباً «أبي مريض صدقاً استنفدت كامل قدرتي لخدمته، وفي ظل انشغالي أخشى ان أهمله ويقل اهتمامي به، وقد علمت أن في هذه الدار من يعمل على توفير كافة ما يلزمه دون تذمّر، فهل بإمكانك مساعدتي؟». وقبل إجابة الطبيب للشاب الذي حال عن وصوله لها، استدارت بسرعة متوجهة لمقعدها الصغير جالسةً تنتظر موعد تناول الدواء الذي لم يتبقّ له سوى القليل فغروب الشمس بات قريباً.

هاتف

منذ لحظة انطلاقها ووصولها ومع كل خطوة تخطوها أخذت تستذكر من بات في عداد الغائبين بلا عودة، فهنا ترى تلك الدمية التي تخطو خطواتها الأولى وبين تارةً وأخرى يخرج صوتها المفاجئ باكياً «ماما، ماما» فتبتسم لمصدر الصوت الغريب، تماماً كما هي تخطو اليوم باكيةً دون ابتسامة، فهي الدمية ذاتها التي حملها لها كهدية تلهو بها، تذكر حينها كم غمرت السعادة قلبها وأحبت الدمية تماماً كما أحبته هو. وفي صباح يوم مشمس يسكنه شيء من البرودة مشابه لصباح هذا اليوم، إذ بهاتفها ينقل صوتاً مردداً عنوان «المقال» الأول الذي نُشر لها في الصحيفة واسمها الذي وقعّت به المقال بصوت فرح. هو ذاك الرجل الوسيم صاحب القلب النابض بياضاً الذي لم يفارقها طيلة مراحل حياتها ولطالما تمسكت وافتخرت بوجوده في حياتها. وقبل أن تتجاوز باب الغرفة التي ودعته من خلالها تركت قبلةً على جبينه علّها تنقل له جميع ما تمنّت ولم تمنحها الأيام فرصة قوله، وباغتتها بغيابه. أما اليوم فباتت تحرص على الاحتفاظ بكلماته وصوته الذي خاطبها متفقداً لأحوالها، واسترجاعه يومياً خوفاً من أن تخذلها ذاكرتها بفقدانه، حيث شاء الله ولم تدرك بأنه اليوم الذي سيغيب صوته عنها، معلناً المكالمة الأخيرة! تعددت أشكال الرحيل، ويبقى للرحيل الأخير رسالةً تخبرنا بأنّ نهاياتنا حتماً ستقف بنا جميعاً أمام «الفراق الدنيوي»، وما ندعه خلفنا أو نمنحه لمن كان معنا حاضراً وغاب أحق أن نستذكره ويذكّرهم «بالمقعد» الفارغ كان وجوده في الحياة جميلاً.
– في السطر الأخير وخارج حدود النص، أترك كلماتي لمن غاب ولن يقرأ ما خطه قلمي «لخالي وداعاً رحمك الله»…

الأردن

«غياب»

تمارا محمد

Source: alghad.com

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *