فحولةُ الرداءة وعقمُ الجودة
[wpcc-script type=”f5888179adbdf96241ef78b6-text/javascript”]
يحدث تسويق البضاعة الفاسدة أو الأقل جودة بإخفاء الجيدة أو بإحاطة الفاسدة بإبهار مزوّر وهو ما يسمى: الدعاية، أمرٌ تنتهجه كبريات الشركات وتنجح فيه، بحيث يتم التعامل مع الأقل على أنّه الكثير، والأسوأ على أنّه الجيد، والمُصاب مُعافى، وإذا خالج أحد ما السؤال لماذا هـــــذا؟ فالأمر ببساطة يتبع للكلفة والسرعة وتحقيق ربح كبير بإمكان قلــــيل وتكلفة ميسّرة، والمردود الذي يجنـــيه أحد باع بضاعة جيدة بلا تلك الدعاية سيقابله أحد باع بضاعة فاسدة وبدعاية ناجحة، بوفرة من المال تفوق عدداً تلك المتحصّلة من الجيدة، وهنا سيتبيّن السائل هدفية تسويق الرديء على أنّه الممكن المتوفر في غياب الآخر اللاممكن واللامتوفر لا لأنه غير ذلك، بل لأنَّ عملاً حثيثاً دؤوباً يُدبّر له ليختفي، فتنتفــــي المقابلة/ المقارنة لصالح الظاهر الذي يقدم نفسه بوصفه الوحيد ولا منافس له في ظلِّ مستهلك كسول، يكمل المعادلة العرجاء أساساً.
الحديث عن البضاعة، يحيلُ بالضرورة إلى ما هو عيني، كأن تكون المادة سلعة معيشية، يحتاجها الإنسان في علاقته اليومــــية مع الحـــياة، لتســــتمر به الحياة، أو تكون سلعــة كماليـــة فرضــتها ظروف معينة لتقفز من حيزِ النافل إلى مصافِ المهمِّ، ومن زاوية النظر المهملة إلى الزاوية الحــادة في العلاقة مع الأشياء، ومن الفــراغ العدمي إلى الامتلاء بالفراغ نفسه، فيكونُ الصفرُ معادلاً للقيمة وفاعلاً في عمليةِ الحساب.
ضمن توصيف العدم والأصفار المعطلّةِ يكونُ الكلام صائباً الدريئةَ إذا تَعدّى السلعَ العينية إلى السلع القيميةِ مع وضعِ خطينِ تحتَ (سلع) الثانية، فلا ضيرَ هنا إذا قال أحدهم: بضاعتهُ السياسية كاسدة، أو ردّت إليكَ بضاعتك، في إشارة إلى فشل الرسالة وخذلانها، وبالتالي سيتورط التوصيف ذاته بإحالة القيمة إلى الدعاية وما يحيط بها، غالباً يكونُ الأمر ميّالاً إلىَ اللانزاهة، فإلى الانتهازية أكثر منهُ إلى تحقيقِ الشرط الأخلاقي، ولو في حدّه الأدنى. ومن هنا قد يجدُ المتابع قيمةَ الدعاية المكرّسةِ البضاعةَ المتجاوزة السلعة إلى الحيوات والكينونة، فيحلُّ بدلاً عن الشيء الأشخاص/ البشر، فاعلون هم، لكنَّ أصابهم مفهوم» التَشيوء» فما عادَ يعنيهم وجودهم المكرَّس ما إذا كانَ حقيقة أم انعكاساً لذواتٍ كانت، قبلَ أن تعرض في السوق، تباع وتشترى تبعاً لثيمةِ العرض والطلب وإزاحة الجيد في معاكسة واضحة للمتعارف عليه، إذ يعرّف أنَّ البضاعةَ الجيدةَ تزيحَ الفاسدةَ.
لا يقتصرُ الأمرُ على السياسة، يقول قائل: السياسة ربيبةُ الانتهازية، أو ابنةٌ شرعية لها، كذلكَ لا ينتمي الفعلُ إلى الدسائس، تلكَ التي تنشطُ في الأزمات وغير الأزمات. الأخلاق لا تغيب لكنها تأخذ إجازتها، تتحوّل من عامل إلى خامل، ومن وسط نقي إلى وسط عَكر يمكنُ الاصطيادُ فيه، فلا غرابة حينها أن تجدَّ صديقاً لك أسمعتهُ سرَّك في لحظة ودٍ وصفاء مغامرا بسرِّك وقد استثمره على أنّهُ أداةٌ، ستساهم في إخماد نارك وتأجيجِ رمادهِ، وإذا يتناسىَ الشخص الذي قوَّضتهُ الحادثة تبعاً للزمن وإجابته لما كان قبلهُ، فإنَّ فعلاً أصاب منظومة القيم، سيعززُ فرضية سيادة الصفر على سواه، ويجعل ُ(المتناسي) وهباً للعطب والخسارات.
تكادُ الثقافة العربية أن تكون بضاعة، هنا لا أغيّبُ فعلها الأصيل ودأب روادها، كذلكَ لا أعني المشاريعَ العاملة/ الهاوية، بحسب إدوارد سعيد، من دون أن تصلَ حدَّ الامتلاء، فتكتفي وتدرأ نفسها عن المياومة والمداومة بحجة أنّها منجزة، وحققت شرط التنافس، فحضرَت بروحها كجنس نبيل، بعيد عن العنانة والالتباس في الـ «Gender» وبزهو الفحولةِ غير المنقوصةِ. وقد أعني الفورة غير المحمودةِ، تلك التي لا تخلص كليةَ لثقافتها بوصفها أصيلة وحاملة لموروث غني وقادرة على صنع ذاتها الجديدة، فيذهب العامل الطارئ فيها هنا إلى رمي الهوية بالعقم والالتفات إلى هويات متحاربة، تمنحهُ الحرب هذهِ ضياعاً، يتلطىَّ خلفهُ إذ لا يستطيع خلق نموذجه أو إزاحة الأصيل في ظل «السلم» حيث كلُّ أمر مسيطر عليه ويخضعُ لأضواء كاشفة.
هذه الثقافة أفرزت لا ثقافة، دخلتها السلطات، فانكفأت المشاريع على ذاتها، بل خلّصت حالها من ريادتها في المستقبليات إلى التراث، وبالتالي التنصل من الفحولة والتشكيك بأبوة (البضاعة) المفترض أنّها جيدة، لكنها متعبة ومجلبة للتعب والمساءلة والرقباء الكثر، بدءاً من السلطة وأبوتها للمجتمعات وانتهاء بالمجتمعات نفسها، وكلُّ ذلك في غيابِ الدعاية لها بحضور الدعاية ضدّها.
منذ زمن أرقب كشخص لا ينسب حاله إلى جهة معينة، حالَ المهرجانات والمؤتمرات والندوات والأمسيات، والكتب وحركة تداول الأسماء، لا يتملكنّي الحسد، بقدرِ ما أشعرُ برغبة في الأسئلة الكثيرة، ذلكَ أنني، ويشاطرني كثيرون الرأي، بعضهم أنجزَ رأيهُ شفاهاً وبعضهم كتابةً، وما فعلتهُ هنا جزء من الخليط الذي التبسَ عليَّ بين الشفوي والكتابي وهو: أسماء شكّلت وعينا المعرفي وكونّت ذائقتنا ومحاكمتنا للأشياء، منها الحياة ومنها الكتابة التي تنتصر لها، إذ تخلو هذه الفعاليات منهم، كما لو أنَّ الملمحَ الواضحَ في قصديةِ هذا الغياب/ القسري هو تقديمِ الرديء والإصرار في ترويجِ أسماء محددة، تتبادل الأمكنة، بحيث يصحُّ المثل:» لها في كل عرس قرص». وبهذا نكون قد مارسنا الدعاية للرداءة على أنها الجيد، الأمر الذي مع الزمن ومع اجترار الأسماء ذاتها كقائمين على الفعاليات أو مدعوين لها، سيصلُ الحال إلى حدِّ الأخذِ بهذه العنانة وتركِ الأصيل يتلظى في شكه من فحولتهِ المهدورة، وهنا لأبين معنى الفحولة فهي بالمؤكد ليست بمعناها الذكوري، إنما تعني عدم الالتباس في أصالةِ الفعل.
٭ شاعر وناقد من سوريا
محمد المطرود