«فريدة» و«كمر»… سلاطين المقام العراقي
[wpcc-script type=”de9542273f3c73c0cc6e03a5-text/javascript”]
في تاريخ المقام العراقي لم تكن المرأة فاعلة إلا في فترة إبراهيم الموصلي وإسحاق وزرياب، وانحسر دورها تماماً بعد ذلك، في فترات مظلمة تعاقبت على العراق ووسمت تأريخه بتقطيع تواصل سلاسل الجمال بمختلف صنوفه، ومنه الغناء.
حتى أواخر القرن التاسع عشر عادت المرأة لتشغل مساحة في عالم الجمال، حسب المنظومة الاجتماعية والدينية والثقافية التي تسمح لها أو تمنعها من أن تشغل مكانها الطبيعي في الغناء تحديداً، خصوصاً لو اعتقدنا أن عذوبة الصوت هبة ربانية، الغرض من خلقها في بعض الناس لتكون الحياة أجمل، وربما لكي نقول الله.. لدى سماعنا صوتا جميلا، وهذهِ عبادة مختلفة لها ما يسندها.
ظهرت صديقة الملاية وسليمة مراد وزهور حسين وعفيفة اسكندر وغيرهن من المغنيات العراقيات، اللواتي ذاع صيتهن، لكن لم تتخصص أي منهن في غناء المقامات، بل كل فنانة اختارت لها نوعا، إما الأغنية البغدادية أو أغنية الريف أو المزج بين أكثر من شكل، عدا سليمة مراد كانت تعرف الكثير عن المقام وتحفظ مقامات كاملة، لكن لم تقدم منه إلا القليل، كون هذا الشكل ارتبط في أذهان الجمهور على أنه غناء ذكوري بامتياز، ويحتاج مساحات صوتية كبيرة تصل إلى ثلاثة أوكتافات، والأوكتاف ثماني درجات صوتية، كما كانت مساحة أصوات محمد القبنچي ويوسف عمر وآخرين أوكتافين، أما طبيعة حنجرة المرأة في طريقة الغناء العربي فإنها لا تتجاوز الأوكتاف ونصف الأوكتاف، في أفضل الحالات، عدا من تعلّمت تكنيك أداء الأوبرا، فقد تصل لأكثر من ذلك بكثير لكن مع التمرين الطويل والدراسة.
ثم ظهرت شابة تغني المقام العراقي بشكل فيه ما يلفت انتباه الأذن العراقية، وتحفظ الكثير من المقامات وتغنيها عن قناعة وأحساس وفي عمر مبكّر، وحضور جيد جداً ولديها ثقافة الغناء العراقي العربي والكردي، اسمها فريدة، وللأنسان دوماً نصيب من اسمه فقد ظلت فريدة، فريدة في عالم الغناء الذكوري، بل مواظبة على تأسيس اسمها ليصبح ملازما لكلمة المقام العراقي (هو شكل غنائي صارم انتقل شفاهاً عبر مئات السنين مع ضوابط لا يمكن المساس بها ودرسناها في ست سنوات) كانت فريدة زميلتنا ولاقت التشجيع من كل أساتذتنا، وزملائنا الطلبة ثم انقطعت فجأة ولفترة سنين ومن دون مقدمات، لتعود معوضة انقطاعها ولكنها كانت لا تجد نفسها إلا وسط فن المقام، وتعمقت تجربة فريدة وكبرت بشراكة فنية مع فنان آلة الجوزة محمد حسين كمر (وآلة الجوزة عبارة عن نصف جوزة هند تغلف بجلد يخترقها عمود دائري وعليها أربعة أوتار) وهذهِ الآلة ملازمة لمغني المقام مع آلة السنطور والإيقاع، وتسمى هذه المجموعة في كل الفترات الماضية ولغاية اليوم بفرقة «الچالغي البغدادي». تلك الشراكة جاءت خيراً، لتواصل فريدة مشروعها وتألقها وأصبحت شراكة حياة أثمرت ثريا، صبية جميلة تفخر بوالديها.
ثم وبسبب ظروف العراق القاسية هاجرت فريدة وشريكها محمد إلى هولندا، وهناك لم تستكن ولم تسترخِ وتنتظر هبات الدولة الحضارية، لكنها عملت ومجموعتها كخلية نحل، ليصبح صوت المقام حاضراً في كل المحافل الدولية، ويصبح حضورهما لافتا لكل المهرجانات الدولية ومسارح العالم، ودوماً تحت اسم المقام العراقي، الذي تعلمناه معاً من أساتذة كبار أمثال الراحل شعوبي إبراهيم أستاذنا جميعاً، وكذلك معلمنا وصديقنا فنان المقام الكبير حسين الأعظمي، الذي سأتناوله لاحقاً بمقال منفصل، كان المناخ مشبعا بالأصالة، وجئنا للوسط مع دخول العلم في الموسيقى، وبصحبة جيل واع وجميل ومتعلم فلم نعانِ ما عانته قبلنا أجيال.
ظلّت فريدة متمسكة بأصالة الأداء، واعتمدت على التراث منهلا تعبر من خلاله عن قدرات حنجرتها، واختارت المقامات التي تناسب روحها فقط ، تقف على المسرح حتى أيامنا هذه محافظة على تقاليد الغناء العراقي الأصيل، غير مهتمة بما يستجد على الساحة الغنائية فلها منطقتها التي لا ينازعها أحد عليها، منطقة مسنودة بحنجرة قادرة على أداء أصعب المقامات وأيضاً تسندها الآن خبرة طويلة.
تقف في منتصف المسرح، وتدرك دائما أن هناك جمهورا جديدا جاء للاستكشاف، لكنها لا تمهد، بل تأخذ جمهورها معها فورا إلى منطقتها الصعبة التي تحلق بها عاليا. لم تكترث كثيرا بشكل وقوفها، كانت معنية بالتاريخ الذي تغنيه كله في لحظة واحدة، واضعة تراث العراق وأصالته الفنية وخصوصيته أمام عينيها، فلا ترى ولا تسمع غير صوت حنجرتها يردد إبداعا عمره مئات السنين.
تغني فريدة كما يغني أساطين الغناء العربي، تمسك ناصية الفن من جهة وناصية التقاليد الفنية من جهة أخرى، لا تتنازل عن أولويات ولا تكترث كثيرا بلفت نظر الإعلام، مع أنه حلقة مهمة في عقد ومسيرة أي فنان، تحضر إعلاميا، لكنها كونها تعيش في هولندا تبدو بعيدة أحيانا عن المطحنة اليومية للإعلام العربي التي تفضل عادة السريع والجاهز، وقلَّ ما تنتبه إلى الأصيل البعيد، ومع هذا استطاعت فريدة وشريكها كمر الوصول إلى الإعلام العالمي الذي احتفى بخصوصيتها وأصالة هذه الخصوصية.
ولأنها فريدة فقد احتفظت بقاعدة راسخة في التاريخ الذي يسطر غدا للفن العراقي اليوم.
موسيقي عراقي
نصير شمه