فوتوغرافيا الفنان العراقي عادل قاسم : الأبواب تتسع للقادمين
[wpcc-script type=”211b254149623d94a1d957fd-text/javascript”]

تعكس فوتوغرافيا الفنان عادل قاسم مدى الإحساس بالألم والدهشة والرغبة، فدائماً عين الكاميرا راصدة لسردياته الشفاهية، محوّلاً إياها إلى سرود الضوء والظِل، ثم الضوء والعتمة، حيث تبدو اللقطة مؤطرة بكمال الرؤية، وصفاء التقنية والنظرة الأنثروبولوجية. ولعل المأوى (المنزل) أخذ منه جُهداً كبيراً، فأرشيفه الفني يحتوي على ما يقارب الـ1000 صورة للأبواب. فمنذ ابتكار الإنسان لصخرة تسد فوّهة الكهف، هذه الصخرة التي تحولت الآن إلى عتبة المأوى/الباب. فالفنان اهتم بالعتبة التي ارتبطت بالبيت، فكشف عن طبيعة الأبواب، قصد الإشارة إلى غنى الداخل للبيت. فكما هي العتبة، يكون المبنى. ومن هنا صارت الكاميرا ترصد هذه الأبواب، ليس لجمالها وحسب، ولا كونها حامية لداخل المنزل، بل إنه اهتم كثيراً بما هي عليه العتبات هذه، مدوناً تاريخها، راصداً جمالية صنعها، مؤكداً اقتران الصناعة بالفكر الذي يتبع أسلوب الابتكار والتجدد وفق تطور المبنى ووظيفته. ووفق هذه النظرة في فحص أبواب الفنان عادل قاسم نرى أنه استطاع أن يلّم بمعظم الأشكال، لا لشيء يخص التفاوت الفئوي والطبقي فقط، بل أنه أكد على تاريخ الأبواب، خلال طبيعتها، وجريان الزمن عليها. فهو يتعامل مع الباب عبر نظرة أنثروبولوجية، وسيسيولوجية، مرتقياً بفنه، سواء في طبيعة اللقطة التي يختار زاويتها، أو التأكيد على محمولات الباب من زخرفة ورقيات ذات صلة بالمقدس، والتي تشكّل مصدات وقاية نفسية للرائي، وتحوّطا نفسيا إزاء ما تشكله نظرة الآخر وفق العُرف الاجتماعي. بمعنى دفع الضرر المحدق بالبيت عبر عبارات من القرآن الكريم، أو عبارات قالها أصحاب الكرامات. فهو يتعامل مع الباب ضمن نظرته التي تؤنسن العتبة، فاتسعت رؤيته إزاء هذا الكيان الذي يقفل ذاته دون الداخل أو المحتوى.
بنية الخيال والرؤى
رؤية الفنان للعتبة تتميّز بإطارها الفلسفي، لأنه يضع هذه العتبة ضمن مقام جدلية إشارتها إلى المعنى أولاً، ونقصد به قيمة المكان التي تشكل الباب سمة أساسية له، وثانياً باعتبار العتبة تشكل نوعا من الصيانة المكانية، والصيانة الفكرية. وهنا يمتزج المعنى بالإطار، أي يكون محتوى البيت متعلقا بقيمة الباب، في تضافر فكري جدلي، يكمل الواحد الآخر، وينوب عنه، خاصة الباب. فهو عنوان كل ما يتعلق بداخله.
من هذا تتشكل رؤية الفنان وهو يراقب الأبواب في كل حيّز مكاني واسع، ويقف عنده متأملاً. وهذا واضح من صياغات الصورة وقيمتها الجمالية ذات العنصر المثير جدلياً. إن إيحاءات الصورة بهذا الشأن عند الفنان، كما هي في صوره الأخرى، تتصل بالأشياء ضمن جدلية وجودها، لذا نجده ينحت في أسس اللقطة من اعتبارات توظيف الخيال. وخياله مصاغ من طبيعتين، سعة رؤيته، ودقة اهتمامه، ما يقوده إلى اختيارات مركزة وذات شأن يحرك ذائقة المتلقي البصري. فالباب لديه عنصر فاعل ودال ومحرك لبنى متعددة. واهتمامه آت من طبيعة رؤيته لحراكه الاجتماعي، وسعة تجربته في فن الفوتوغراف. فهو شاهد بيوتا بلا أبواب، وتمعن في كهوف البردي والقصب، وصورة المضائف في الريف والأهوار. لذا اكتسب رؤية مقارنة لمثل هذا الصرح الذي يشكل عنصراً مهماً في البيت. المقارنة لديه تنبثق من صيرورة البيوت التي رآها بلا أبواب، لكنها ترفل بالأمان والدعة، مكتسبة ذلك من بدائية الحياة وعلاقتها بالحياة الأولى. كما ينظر إلى البيوت في المدن والحواضر التي تحكم محتواها بالأبواب، ثم تتفنن في اختياراتها لتلك الأبواب، ما أثار عنده نوعا من المقارنة، بين اللاأمان في المدن، رغم وجود القانون الذي يحكمها، وترف قاطنيها في اختياراتهم للأشكال ونوع الخشب والزخرفة. هذه النظرة هي التي حددت مخيلته في تصوّر الأشياء، فنشطت عين كاميرته في رصد الأبواب التي واجهها، ما تشكلت لديه سيرة واسعة للأبواب. بمعنى أصبح في صيرورته الفنية مولعا في رصد الأبواب وتصنيفها على مستويات متعددة.
مستوى اللقطة
اللقطة وزاويتها الدقيقة، واحدة من أسس نجاح الصورة. فهي لا تأتي مصادفة، وإنما من المراقبة الواسعة والدؤوبة، حيث تقع عين المصوّر على جملة مشاهد، ولا يشغله ويدفع بذائقة اهتمامه سواها، بسبب توفرها على جملة معان.
الفنان عادل قاسم يعمل على تصفح مدونة الوجود اليومي، خاضعاً لمكوّن فكري، يُنقي نظرته ويركزها، لذا نجده شديد الدقة في ما التقط من مشاهد، مستوفيا لشروط البناء الفني للصورة، مجسداً تآزر الضوء والظِل في تجسيد مكوناتها. والباب ذو المشغولية عند الفنان استطاع خلال تصويره أن ينقي ويلتقط أدق ما يتصف به الباب، من جمالية فائقة، ومن فن صناعة راقية، أو كوّنه يميل زمنياً إلى الاندثار، إذ يكون باب الاجتهاد الفني مفتوحاً لمداولة قرارات العين المزدوجة (عين الفنان وعين الكاميرا) هذا التآزر يُفضي إلى كشف الحقائق التي عليها هذه العتبة. ففي فحص الأبواب التي التقط صوّرا لها، نجده مولعا جدلياً بهذا الكائن الذي يُحقق وحدته وظيفياً من جهة، ووجوده القائم على الذات. فلا نجد ثمة باب غير متوفر على وظائف، كما لم نر باباً لم يُسفر عن تشكلاته الذاتية والموضوعية. وهذا راجع ليس لخاصية الباب وحسب، بل إنه دلّ على إمكانية الفنان على توسيع دائرة نظره إلى العتبة، من محور جدلية وجوده.
٭ كاتب عراقي
جاسم عاصي