فيروز والأخوان رحباني
[wpcc-script type=”624fac18e3dc1632ddc46ec2-text/javascript”]
في مسار الموسيقى العربية هناك محطات مهمة استطاعت أن تؤسس لجيل غنائي كامل، أو لأجيال كثيرة، من هذه المحطات الرحابنة الذين لا يمكن أن نكتب تاريخ الموسيقى العربية من دون أن نتوقف في محطتهم (وأعني الأخوين رحباني وفيروز).
نشأ الأخوان رحباني في جو موسيقي قروي متشدد، فقد كان والدهما عازفا للبزق، وكان في متناول الصبيين أن يسمعا كل ليلة أنغاما شجية تتصاعد من آلة أبيهما، وفي جو القرية بدأ الأساس الشاعري الفني، فكل شيء يلوح بالموسيقى، الشتاء والصيف والربيع والخريف، تتابع الألوان وانهمار صوت الماء، وأصوات الطبيعة التي تمنح الموسيقى الأسمى في الوجود.
كل شيء كان ينذر الأخوين بحياة أخرى، في البداية كان عاصي الذي كان ذكيا وتفتحت مواهبه باكرا، يسمع الموسيقى ويقرأ الشعر، بل يحفظ تراثا شفويا غنيا، وما أن بدأ عاصي يخطو أولى خطواته في تأسيس حياته المستقبلية حتى أسس مجلة للشعر ليلحق به منصور ويؤسس مجلة أخرى وليصبح التنافس هو شريعة الأخوين اللذين بزغت موهبتهما مبكرا، ولأن التنافس المحب يخلق بيئة خصبة للإبداع؛ فقد أبدع الرحبانيان معاً، وصارا يؤلفان وينتجان.
البداية كانت حركة ثقافية مشتعلة، فقد أسس عاصي ومنصور لمشاريع ثقافية كثيرة، ولم يقتصر همهما على الموسيقى والشعر، بل انصب أيضاً على المسرح ليشمل من بعده أغلب فنون الحس.
قال منصور ذات مرة: «إن على الفنان أن يقول جديداً وإلا.. فليصمت»، وهكذا أسس الرحابنة لعرف موسيقي جديد، ولكلمة مغناة جديدة هي الأخرى، كانا يعملان في ورشة تبدأ من أول العمل ولا تنتهي معه، يكتبان ويلحنان ويوزعان موسيقاهما من دون أن ينسيا وهما في دورة كبيرة أن عليهما أن يستمرا في تأسيس ذائقتهما الفنية ومدها بنهر ثقافي لا يتوقف عن الجريان.
ففي الوقت الذي انشغل فيه الرحابنة في خلق أعمال سيظل يذكرها التاريخ، كان الهم أيضاً منصبا على التطوير والتجديد.
يبدأ العمل ربما بالكلمة، ثم يغمر كل شيء، فهما يكتبان النص، ويمنحانه شكله اللحني، يرسمان الشخوص ويديرانها على المسرح، كان الفن يكتب سيرتهما في الوقت الذي كانا يؤسسان فيه لتاريخهما. مع فيروز استطاع الرحابنة أن يؤسسا لذائقة مغايرة، فكما أسست أم كلثوم مرحلة، ومثلها فعل عبد الحليم حافظ، وكما كان سيد درويش، ومحمد عبد الوهاب، كان أيضاً الرحابنة قد أسسا سيرة كاملة كتبت بأحرف الموسيقى.
استقى الرحابنة من الفلكلور في بلاد الشام، وأسسا ذائقتهما على التراث، لذلك عندما أرادا أن يجددا استطاعا أن يخلقا تياراً جديداً لأنهما في الأساس وهبا نفسيهما بحثا عن تاريخ مغاير للفن.
من الموشح إلى الأغنية المختلفة، إلى اللحن الأوروبي الذي كتبت له كلمات عربية، إلى إيقاع موسيقي راقص ودبكة تحمل هوية بلدهما، إلى الصوت الذي يدخل النفس فيثير فيها الفرح والشجن والحب والأمل والألم، إلى المسرح الغنائي والمهرجانات وإلى الأوطان التي تُغنى بالقلب لا بالصوت فقط، إلى الشعر الدافئ، إلى كتابة المسلسلات وإعداد البرامج التلفزيونية والأفلام، كل ذلك كان خطاً رسمه الرحابنة وسارا عليه، واستطاعا أن يبنيا تاريخاً خاصاً، بل أن يسميا كل موسيقى من لبنان باسمهما.
حتى أصبحا من خلال الإبداع عنوانا لبلد وسماه بالفن والجمال الذي بثاه على العالم، وعرفا بأنهما (المدرسة الرحبانية) تلك المدرسة التي استطاعت بحق أن تؤسس لأجيال متتابعة.
كانت مدرسة عائلية، لكنها استطاعت أن تجعل الوطن العربي كله عائلتها الكبيرة، إذ دخل الرحابنة كل منزل في العالم العربي، وامتدا خارجه ليصبح لهما مريدين في العالم كله، واستطاعا أن يجعلا من فيروز سفيرة بلادهم إلى النجوم.
استطاع الرحابنة فعلا أن يكونا أسرة ظل التجديد يتوإلى فيها، لم يكتفيا بالتجديد في ما حولهما بل عمدا حتى إلى موسيقاهما يجددان فيها وفي توزيعها، تماما كما قاما بتقديم رؤية جديدة لأعمال من سبقهما على صعيد التوزيع والصوت.
ومثلما صنع الرحابنة شيئا مغايرا على صعيد الموسيقى جاء سليلهما زياد الرحباني ليكمل الطريق وإن اختلفت أساليبه.
في طفولتنا عرفنا صوت فيروز يأتينا في الصباحات قبل المدارس، وفي الدروب الضيقة التي تذهب بنا نحو مدارسنا كانت كلمات الرحابنة وألحانهما ترافقنا، كانت الرحلة معهما تشبه مشواراً جميلاً لا نريد له أن ينتهي، واستطاع الرحابنة أن يدخلا حياة كل منا بكل مفردة فيها، ففي الحب كنا نهدي أغنياتهما، وفي الحزن كذلك في الفراق وفي الألم، حتى عندما نشتاق الوطن البعيد المسيج بالحصار كان صوت فيروز المغلف بعبقرية الرحابنة يأتينا فتخفق الأوطان في صدورنا، من منا لم يستفق على «القدس يا مدينة السلام»، ولأن الرحابنة استقيا من الحياة مادتهما الأولى، لم يحاولا أن يبتدعا لغة غائبة، أو أسطورية، أخذا مفردات الحياة نفسها فصارت لغة أغانيهما أقرب إلى القلب، كما هي أقرب إلى اليومي والمعاش، ولعل البحث في حالة الرحابنة لا يمكن أن يدور حول الموسيقى وحدها، ففي الحقيقة استطاعت هذه المجموعة أن توجد مناخا كاملا من حالة ثقافية متكاملة لا يفترق فيها الشعر عن اللحن ولا السيناريو عن المسرح حينما يخرج صوت المغني ليكمل عملا مكتوبا، كان الرحابنة حالة متكاملة من فعل لا نستطيع أن نجد فيه ثغرة واحدة، لذلك يصعب على من يريد أن يتصدى لمشوارهما أن يقرأ وجهاً واحدا لأن وجوههم كلها أصل ولا وجود لقناع.
في مسرحياتهما حضرت تفاصيل القرية اللبنانية، فتياتها بملابسهن الملونة وشعرهن المربوط، وبكلامهن وسهر لياليهن، وكان رجل البوليس أيضاً حاضرا خصوصا أننا نذكر أن الأخوين رحباني كانا موظفين في مجال الشرطة (بوليس) في بداية حياتهما.
هما من أوائل الذين أدخلا التوزيع الموسيقي (الهارموني) على الأغنية العربية، وتدخلاتهما كانت شفيفة وتعتمد على النظريات الموسيقية المتعارف عليها عالميا، لذلك بقدر ما كانت هذه الألحان ميلودية وعربية، كانت آفاقها مفتوحة نحو الآخر في كل مكان. عرفا علوم الموسيقى فقادت مواهبهما نحو مراتب يصعب تكرارها في حاضرنا كحالة وكمشروع متكامل.
لو أردت الحديث تحليلا موسيقيا لمشروع الرحابنة فهو بلا شك مشروع كتاب كبير ينظر لتجربتهما وينصفها إنصاف المختص، إضافة إلى أنهما امتلكا إنصاف العامة والخاصة وهذه حالة نجدها أمام العبقريات فقط والحقيقية منها.
الرحابنة عنوان لوطن وشعب ودولة
كم أتمنى أن أخوض في تفصيلات تجربتهما لكن المجال هنا لا يتسع إلا لإعطاء وجهة نظر ليست نقدية بقدر ما هي صورة بانورامية لعالم ملأ قلوبنا حبا وشغفا بالحياة وبمفردات نعيشها في كل لحظة، ولم نلتفت إليها. نستطيع أن نقول إن الرحابنة استطاعا أن يحولا الأشياء الصغيرة المهملة التي قد نمر عليها كل يوم ولا نراها إلى أشياء تعيش في الذاكرة وتستيقظ معها في كل صباح، وتأخذ مكانها مهما كانت صغيرة وعابرة.
موسيقي عراقي
نصير شمه