فيروز والرحابنة… الصوت والصورة

تحدثت في الأسبوع الماضي عن أثر الرحابنة وفيروز في الأغنية العربية، ولأن هذا الدور لم يقتصر على الأغنية المغناة بشكل مستقل فقط، بل تعداه الى كل ما يمتّ الى الأغنية بصلة مثل المسرح الغنائي والأفلام السينمائية والعروض المسرحية المتكاملة المدروسة من كل النواحي، حتى من ناحية تناسب الأصوات التي تقف على المسرح الواحد، فإنني سأستكمل اليوم هذه المدرسة التي تأسست وأسست معها ذائقة تعدت المحلية الى العربية ومن ثم العالمية لعمقها، كما أنها استطاعت لسلاستها أن تجعل اللهجة اللبنانية لهجة محببة وقريبة من الأذن العربية.

فيروز والرحابنة… الصوت والصورة

[wpcc-script type=”7236c5ac49a86c52b7ad16b2-text/javascript”]

تحدثت في الأسبوع الماضي عن أثر الرحابنة وفيروز في الأغنية العربية، ولأن هذا الدور لم يقتصر على الأغنية المغناة بشكل مستقل فقط، بل تعداه الى كل ما يمتّ الى الأغنية بصلة مثل المسرح الغنائي والأفلام السينمائية والعروض المسرحية المتكاملة المدروسة من كل النواحي، حتى من ناحية تناسب الأصوات التي تقف على المسرح الواحد، فإنني سأستكمل اليوم هذه المدرسة التي تأسست وأسست معها ذائقة تعدت المحلية الى العربية ومن ثم العالمية لعمقها، كما أنها استطاعت لسلاستها أن تجعل اللهجة اللبنانية لهجة محببة وقريبة من الأذن العربية.
إسهام هذه المدرسة جاء واسعا وتدريجيا، ولكنها حتى بتدرجها كانت سريعة في «لم الشمل» لجمهور عربي كان قد اعتاد ذائقة مختلفة تماما.
لم تعتمد مدرسة الرحابنة على التطريب، بل بنت نفسها أولا على المشاعر الدافئة والرقيقة، إن كان من ناحية الصوت أو الموسيقى أو الكلمات، ولا أعرف تماما إن كان المقصود أن يصبح غناء فيروز للصباح وأن يترك الليل ليتقاسمه التطريب، الذي كانت فيروز أيضا تشغل حيزا مهما منه. فجأة أطلت فيروز بصوتها الصباحي لتفتتح الصباحات، وفجأة تقاسمتها البيوت عند استيقاظ أهلها وأصبحت رفيقة سائقي السيارات، ورفيقة ربات البيوت وهن ينهضن إلى أعمال بيوتهن، أو وهن يجهزن أطفالهن للمدارس.
كانوا وما زالوا مدرسة يستيقظ عليها طلاب المدارس لتفتح لهم صباحا «ناعما» ورقيقا.
عمل الرحابنة على ما يمكن أن يسمى بأصوات «الطبيعة»، وجاءت الأصوات التي لحنوا لها أصواتا تحمل أوصاف او أماكن الطبيعة، فهذا صوته «جبلي» وتلك صوتها نهاري، حتى أن فيروز نفسها حملت لقب «سفيرتنا إلى النجوم» كأنما تستكمل حلقة الطبيعة وتقف في أعلاها ملوحة لا بأصابعها فقط بل بكلها لحلقة أسس لها الرحابنة ومنحوها في هذه الحلقة الإطلالة الأولى.عاشت فيروز وسط هذه الحلقة كأنما في برج مشيد وعال، هي موجودة دائما، ومع هذا لا تكاد تُلتقط، حاضرة دائما، وصوتها في كل مكان، ومع هذا حضورها في الإعلام كان نادرا.
على المسرح لم تختلف الصورة، ففي حفلاتها الغنائية، كانت ما أن تطل على جمهورها بأغنية سريعة إلا ونراها توارت خلف ستارة المسرح ليطل صوت آخر بانتظار إطلالتها، هكذا وظف الرحابنة كل ما حول فيروز لها وحدها، وتحول حضورها إلى «مسك» أو إلى النتيجة الأخيرة لعطر، حتى لو كانت الأصوات التي تحيط بها أصواتا كبيرة ومهمة ذات خامات خاصة، ظلّت الخاصية لفيروز وحدها، وصارت إطلالتها تُنتظر بواسطة جمهور ظلّ يكبر ويكبر حتى ملأ الصور كلها.
لم تأت مدرسة الرحابنة بمنهاج مكرّس وثابت، بل عزفت على وتر التغيير أولا، ومن هنا يُحسب لها انها أسست لأسلوبية خاصة جدا ستتناقلها في ما بعد أجيال وأجيال، منها من يحاول أن يبني أسلوبه الخاص وسط هذه المدرسة ليجد نفسه بين فكي الكماشة، فمدرسة الرحابنة ليست مدرسة يسهل الخلاص من آثارها، فقد بُنيت كجبل شاهق، يصعب البناء فوقه، وما يُبنى تحته سيظلّ تحته.
«البساطة» و»السلاسة» وصفان طبعا مسيرة الرحابنة، ليس على صعيد مفردات الأغنية فقط بل حتى على صعيد السيناريو في الفيلم والحوار في المسرح، سهولة وبساطة تجعل الغناء نفسه يبدو الصورة التامة للفيلم أو للمسرحية، ومع هذا لا يشعر المتلقي أبدا بأنه أمام أغنية مقحمة أو موسيقى طارئة.
يأتي المشاهد إلى حضور فيروز وهو يعلم تماما أنه أمام صوتها وهي تغني، وربما حين يغادر الفيلم أو المسرحية لا يتبقى في رأسه سوى الغناء، ومع هذا كان الرحابنة على عناية خاصة ببناء المشهد والحدث. لم يتحدث الرحابنة كثيرا عن تجربتهما، بل تركا للجميع أن يستنبطوا ما عليها ومنها، تركا الصورة أيضا غارقة في عتمة التساؤلات، وكانا يتركان الإجابات لعروضهما التي غالبا ما كانت تفتح المزيد من الأسئلة، وعلى عكس السائد في الحضور الإعلامي للفنانين والفنانات غاب الرحابنة وغيبوا كل من كان في حلقتهم عن الحضور الإعلامي، ومع هذا كان حضور هذه المدرسة بكل مفرداتها طاغيا وخاصا.
لم تأت تجربة الرحابنة من فراغ، فقد تأسست على ثقافة واسعة، ليست ثقافة موسيقية وحسب، إنما ثقافة شاملة استطاعت ان تؤسس لفكر مستقل بنى كل هذه التجربة التي ستظل تجربة وانعطافة مهمة في تاريخ الموسيقى والأغنية العربية مهما تقادم عليها الزمان.
اليوم نشاهد الكثير من التجارب التي تدور في حلقة الرحابنة المفتوحة والمغلقة في الوقت نفسه، مفتوحة لأنها أرادت أن تستقبل ما حولها، ومغلقة لأنها امتنعت عن أن تكون إسفنجة تمتص ما حولها، هكذا ظلّت هذه التجارب على سطح الدائرة، وظلّت أيضا تنتمي إلى المدرسة الأسلوبية الرحبانية، ومع ظهور أصوات عديدة تتشبه بصوت «النجمة» فيروز إلا أن هذه الأصوات ظلّت أيضا تحمل لقب فيروز ولم تستطع أن تبني لها مكانا إلا في منطقة ظلّ فيروز الوارف والشاهق.
المدرسة الرحبانية مدرسة خاصة جدا، عالم متكامل، وقف وحده بهندسة فريدة اعتمدت على الفكر والثقافة واتخذت من الموسيقى سلَّما خاصا لتغيير لم يقتصر على حقل الموسيقى وحده، هو سلّم موسيقي بسبعة مفاتيح، ومفاتيحها بين أصابع اخوين أضاعا الفواصل بينهما وتركا أسئلة كثيرة عمن منهما الذي لحن ومن الذي كتب، ومع ثالثهما فيروز كانا يرسمان صورة يدركان جيدا أنها ستبقى صورة راسخة في ألبوم الزمن الذي تتساقط فيه ومنه الكثير من الصور.

موسيقي عراقي

نصير شمه

Source: alghad.com

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *