فيلم «أم غايب» للمصرية نادين صليب: ما بين وعي لا يرحم وإله تُرتجى رحمته

القاهرة ـ «القدس العربي»: «أم غايب» لقب يُطلق في جنوب مصر على المرأة التي لم يهبها الله أطفالاً، فيصبح الطفل المُرتجى غائباً في رحم الغيب. هذه الكُنية التي اتخذ منها فيلم المخرجة نادين صليب عنوانه، لتستعرض من خلاله حياة امرأة شابه في حالة انتظار دام لأعوام طوال، فقط تحيا على أمل، وأحياناً تكفر به، وتبدأ في إثارة التساؤلات بينها وبين نفسها، عن جدوى وجودها، ولماذا خلقها الله، وكيف تتحقق رحمته بها وهي على هذه الحال؟ وتحمده مرّة أخرى، عند موت طفل لامرأة، لأنه رحمها من عذاب أشد مما تعانيه الآن. هذه الأسئلة المزمنة لا تتوقف في وعي بطلة الفيلم وصاحبة الحكاية، وتمتد إلى أكثر تفاصيل الحياة دِقة، أو خِفة، مما جعل الذين يحيطونها يطلقون عليها أنها لا تعيش إلا في خيالها، وأن عقلها على قدّها. «أم غايب» يدخل في عِداد الفيلم الوثائقي، وإن كان تخلص في الكثير من تفاصيله وبنيته من سلبيات مفهوم الوثائقي العربي، لتصبح مسألة التصنيف غائمة ومُجافية لمنطق الفن والفيلم السينمائي عموماً. إضافة إلى أسلوب السرد البصري، الذي أصّل لفكرة تماهي الشكل الفيلمي ــ من حيث التقنية والبنية السردية للحكاية ــ ليصبح في النهاية عملاً سينمائياً جديراً بالانتساب إلى فن السينما. يُعرض الفيلم الآن في سينما زاوية في القاهرة، في عرضه الجماهيري الأول، ضمن عروض الأسابيع الخاصة.

فيلم «أم غايب» للمصرية نادين صليب: ما بين وعي لا يرحم وإله تُرتجى رحمته

[wpcc-script type=”369f86df74468cbad5753fb6-text/javascript”]

القاهرة ـ «القدس العربي»: «أم غايب» لقب يُطلق في جنوب مصر على المرأة التي لم يهبها الله أطفالاً، فيصبح الطفل المُرتجى غائباً في رحم الغيب. هذه الكُنية التي اتخذ منها فيلم المخرجة نادين صليب عنوانه، لتستعرض من خلاله حياة امرأة شابه في حالة انتظار دام لأعوام طوال، فقط تحيا على أمل، وأحياناً تكفر به، وتبدأ في إثارة التساؤلات بينها وبين نفسها، عن جدوى وجودها، ولماذا خلقها الله، وكيف تتحقق رحمته بها وهي على هذه الحال؟ وتحمده مرّة أخرى، عند موت طفل لامرأة، لأنه رحمها من عذاب أشد مما تعانيه الآن. هذه الأسئلة المزمنة لا تتوقف في وعي بطلة الفيلم وصاحبة الحكاية، وتمتد إلى أكثر تفاصيل الحياة دِقة، أو خِفة، مما جعل الذين يحيطونها يطلقون عليها أنها لا تعيش إلا في خيالها، وأن عقلها على قدّها. «أم غايب» يدخل في عِداد الفيلم الوثائقي، وإن كان تخلص في الكثير من تفاصيله وبنيته من سلبيات مفهوم الوثائقي العربي، لتصبح مسألة التصنيف غائمة ومُجافية لمنطق الفن والفيلم السينمائي عموماً. إضافة إلى أسلوب السرد البصري، الذي أصّل لفكرة تماهي الشكل الفيلمي ــ من حيث التقنية والبنية السردية للحكاية ــ ليصبح في النهاية عملاً سينمائياً جديراً بالانتساب إلى فن السينما. يُعرض الفيلم الآن في سينما زاوية في القاهرة، في عرضه الجماهيري الأول، ضمن عروض الأسابيع الخاصة.

عالم الجنوب

في قرية من قرى الجنوب المصري، ومن دون تحديد تفاصيل حتى يُعبّر التجريد عن حالة أشمل لمجتمع كبير، تعيش (حنان) امرأة شابه، تزوجت أحد أقاربها، من دون أن تُنجب بعد مرور أكثر من عشر سنوات على زواجهما. يعمل زوجها مع والده في بناء المقابر ودفن الموتى، فالمقابر وعالم الأموات يُشكل كل منهما ركناً مهماً من أركان الحياة، حتى أن المرأة تهدأ روحها وتستريح بجوار مقابر أقاربها، وكأنهم أحياء، لتثور تساؤلاتها البسيطة والعميقة في الوقت نفسه، عن جدوى الحياة وصعوبتها، طالما النهاية ستكون هنا، ووسط هذه الحالة من الهدوء.
المرأة لا تتفلسف ولا تتصنع الحكمة، ولكن كلماتها البسيطة توحي بالثقة، وبما أنها في الصعيد، وبما أنها تنتظر طفلاً، فكان لابد من عالم الأساطير والخرافات أن ينمو ويزدهر حولها كصبّار المقابر، مثل القيام باستخدام وسائل غريبة وخطرة على حياتها، كذلك تجربة أشياء في غاية القسوة، بداية من أن تخطو أمام قطار مُقترب، أو تخطو فوق ثعبان، أو تطوف حول أحد القبور. وصولاً إلى التدحرج فوق أرض المقابر، حيث التربة الخشنة والقاسية. وما هي إلا وسائل وطقوس متوارثة، وفي النهاية فالأمر بيد الله يفعل ما يشاء.
لا يتنافى وجود أحدث أنواع الهواتف المحمولة في يد الزوج، أو أطباق الستالايت، مع الذهاب إلى قابلة القرية، التي يستشيرها الأطباء إذا ما واجهوا مشكلات في عملهم، وكثيراً ما يواجهون، حتى أن المرأة بعد رحيلها/القابلة، ووقوف حنان أمام قبرها وقراءة الفاتحة، يقول والد زوجها إن الأطباء الآن سيتصرفون على هواهم.
القابلة التي تعرف حدودها في تواضع وثقة، وتعرف كيف يصبح الأمر خارج قدراتها، فتُشير على المريضة بأن حالتها مثلاً تستوجب زيارة طبيب، إلا أن حكاياتها تنثال كخيوط من الصبر لتلتف بها (أم غايب) فقديماً كانت هناك امرأة تنتظر طفلاً، وبعدما فقدت الأمل جاء الطفل، وكان عليها وضع الخلاص في جرّة فخارية، وكم ضحت من أجله، كبر الولد وتزوج وأهان أمه في سبيل امرأته، فما كان من الأم إلا أن جاءت بالجرّة وحطمتها، ليسقط الولد/الرجل الآن ميتاً. فلنحمد الله، وننتظر رحمته.

حنان ورفيقاتها

تبدّت حالة حنان ليس فقط من خلال أن تحكي وتعلق على ما يحدث، بل من خلال رد الفعل على حدث ما، كأن يتأكد حمل جارة لها على سبيل المثال، وأن تحتفظ لها بملابس للمولود الذي اقترب ميعاده ــ هذه الجارة ستموت طفلتها بعد الولادة، فتدفنها في مقابر القرية، وترحل بعض الوقت إلى مكان آخر ــ وهنا تحمد حنان الله لأنها لم تتعرض لهذا الموقف.
تحكي حنان عن زواجها، فلم يكن حباً، ولم تعش قصة حب، لكنها بعد الزواج قدّرت زوجها، خاصة وهو يقف معها في محنتها، ويرفض الزواج بأخرى، حسب التقاليد المُتبعة في مثل حالتها. وتذكر أنها لا تغادر القرية إلا لزيارة الأطباء في المدينة، أو الأولياء الصالحين، لكنها لم تذهب أبداً للتنزه، وما كانت تحلم به منذ أن كانت شابة في بيت أبيها.

عالم الحكايات

لم تقتصر الحكاية على معاناة امرأة من عدم الإنجاب، بل وفي بساطة شديدة تتكشف علاقات وعقائد اجتماعية لم تزل راسخة، وإن مسّها بعض من رتوش التحديث الظاهرية. علاقات يتم إعادة إنتاجها واستهلاكها دوماً. وإن كانت المخرجة حاولت الإيحاء بالمضايقات التي تحدث للمرأة أو القيود التي تحيا في ظلها، إلا أنها لم تتورط في الشكل الفلكلوري لمجتمع النساء في بيئة من بيئات جنوب مصر، بل هناك قيود ومسؤوليات على الرجل والمرأة معاً، هناك أشكال اجتماعية واقتصادية ضالة، جعلت كليهما لم يزل يعيش في متاهات أكثر ضلالاً، وإن نجت صاحبة العقل الخفيف بأعجوبة، بفضل وعيها الحاد، الذي شكّلته وساعدت عليه أزمتها الأكثر حدة. من ناحية أخرى نجد العديد من المشاهد التي أرادتها المخرجة أن تحدث، خاصة التي تُصاحبها مقاطع غنائية معينة، سواء في العمل أو في البيت، شعرنا بأنها موجهة أكثر، وبالتالي تتباين عن إيقاع الفيلم في مُجمله.
ولائم في ساحة البيت الخارجية، وأصوات مرتفعة وملامح يعلوها الفرح، وحنان التي أصبح الطفل يتنفس داخلها الآن غير مُصدّقة. وبما أنها في مجتمع يرى أن عقلها خفيف، فكان لابد من هذه الخِفة أن تفكر في ما يحدث، وبالتالي تستغرب حنان حالتها، وأهل زوجها وأقاربها، ولا تعرف ما تريد أو تفعل، تفرح أم تحزن، تقر روحها أم تستكمل مسيرة القلق، لا تعرف! ويبدو أن الله أراد أن يُدخلها التجربة حتى النهاية، فبعد أقل من شهر تفقد المرأة جنينها، وتتحقق كلماتها في وعي المتفرّج … حياة أو موت أو كليهما، وأي هدف أو معنى لكل ما يحدث؟
من أهم سمات فيلم «أم غايب» أنه اعتمد أسلوباً بصرياً بالأساس، من دون أن يتورط في أن تصبح السينما تابعة للحوار، أو العبارات التي تنسج منها بطلة الفيلم حكايتها، أو حكايات الذين يحيطونها ــ كعادة مثل هذا الشكل الفيلمي ــ ونجحت صليب في التعبير عن حالة البطلة بصرياً، بل والاجتهاد في إيجاد معادلات بصرية ترتبط تعليقاً أو مُفارقة مع فعل الحكي نفسه. من ناحية أخرى خلق حالة متوترة دوماً ما بين الحياة والموت، متمثلة في صخب الأطفال، وصوتهم الطاغي دوماً على كلمات رب الأسرة ــ والد الزوج ــ وجميع مَن يحيون معه، بحيث يتصدر صراخ أو ضحك أو حتى النداء بصوت مرتفع المشهد، وكأن المرأة/حنان تسمع وتعيش هذا الصخب، وتريد أن نتفاعل معها من خلاله. هذا وما يقابله من هدوء ترجوه وتستريح إليه في زيارتها للمقابر، والعيش مع أمواتها وذكرياتها عنهم. التوتر ما بين مستقبل يحمل الكثير من الشك في أن يتحقق ــ رغم صخبه المزمن ــ وبين حياة وتيرتها الصمت التام.

محمد عبد الرحيم

Source: alghad.com

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *