فيلم «عجمي» لاسكندر قبطي ويارون شاني بين جحيم الأعراف العربية والشعب المختار
[wpcc-script type=”5f00264ae51f11f6a07fb10d-text/javascript”]
القاهرة ـ «القدس العربي»: بعيداً عن الشعارات الطنانة، والتنديد بمساوئ الاحتلال، ومشاهد الفضائيات ومانشتات الصحف، تأتي الوقائع لتصبح أشد قسوة من معالجات فنية مباشرة، حاولت تجسيد ما يدور في الأرض المحتلة، خاصة إذا كان الأمر يتعلق بعرب 1948 والنظرة المشكوك بها على الدوام من قِبل العرب والإسرائيليين إلى هؤلاء، فالعرب وباقي الفلسطينيين يضعونهم في موضع الشك، بينما إسرائيل تريدهم أن يرتلوا تراتيل الولاء، بل والإيمان بالدولة العبرية.
فما بين ثقل العادات والتاريخ، وعبء الوضع المختل للكيان الإسرائيلي يشعر الجميع بالمأساة التي لا يستطيع أحد النجاة من تبعاتها، سواء من الفلسطينيين أو الإسرائيليين، فالجميع منسيون فوق هذه الأرض، وكأن قوى خفيّة تصوغ خطوط حيواتهم، وتتلذذ ساخرة بمشاهدة ألعابهم الطفولية الساذجة. فهم ضحايا على رغم مظاهر القوة المزعومة، وما بعض انتصاراتهم الوهمية سوى لحظة وسَن، يستفيقون منها وقد استهلكوا أعمارهم وحياتهم، بعدما تأكدوا أنهم الخاسرون في النهاية.
ومثل فيلم «مدينة الله» لـمخرجه فرناندو ميراليس يأتي فيلم «عجمي» ليستعرض في أسلوب يقترب من التوثيق الحياة في أحد أحياء يافا، والذي يحمل الفيلم اسمه. فالحكايات والشخصيات تمثل أنماطاً ونماذج مختلفة لكل مَن يعيشون داخل هذا الحي، إضافة إلى الوقائع الاجتماعية والصراعات الناتجة عن محاولات العيش والتعايش المستميتة بين ثلاث ديانات وأعراف قبليّة وإيديولوجيات تتحكم في سلوكهم، وهم يحاولون بشتى الطرق الافلات منه، لكنه في النهاية مصير محتوم، لا يمكن الهرب منه أو حتى التفكير في تجاوزه، رغم المظاهر الهشة لشكل الحياة المشتركة. الفيلم إنتاج إسرائيلي وألماني، أداء فؤاد حبش، ونسرين ريحان، وإلياس صابا، ويوسف صحواني، وإسكندر قبطي، ورنين كريم، وعيران نعيم. سيناريو وإخراج إسكندر قبطي ويارون شاني.
ضحايا خائبون
تبدو لعبة الضحية التي يتمثلها الطرفان ويتقاسماها في الوقت نفسه ذات وجهين، أولهما يتمثل في ما أورثه تاريخ الشعب اليهودي للعرب، وقد تبادلا الأدوار الآن، وما زال البعض منهم ــ اليهود ــ يصر عليها، بعدما أصبحت من مكونات شخصيته، رغم كل ما تم إنجازه ــ من وجهة نظرهم ــ وقد أصبحت لهم دولة اسمها إسرائيل، التي يتعلل قادتها لمواطنيهم دوماً أنهم ما زالوا يعيشون هذا الدور، ولا بد من تقديم المزيد من التضحيات! والوجه الآخر يتمثل في التقاليد العربية، التي تصبح أشد قسوة من سياسات جيش الاحتلال، التقاليد التي لم تُقْدِم إسرائيل ولن، لا نقول على التخلص أو الحد منها، بل حتى تهذيبها، ليمارس العرب بداوتهم، ونظرة الارتياب في الآخر، حتى لو كان هذا الآخر من جيرته، لكنه ينتمي لعائلة أخرى، كتقاليد الثأر والدِيّة، وهي محاولة توفيقية باهتة ما بين العقل القَبَلي والحل الديني الشرائعي! ذلك كله يحيطه الإطار الأهم، والذي جعلنا نتذكّر سريعاً البيئة التي تدور فيها أحداث فيلم «مدينة الله» هو الوضع الاقتصادي المُتردي، وغياب القانون تماماً، إلا حسب هوى سلطة الاحتلال. فالفيلم من الممكن أن يتم سرد أحداثه في أي مكان من دول العالم الثالث ــ الأمر الذي أزعج إسرائيل بما أنها ترى نفسها ليست في تخلف جيرانها ــ فالفقر والبطالة والجريمة والمخدرات هي أسس هذه المجتمعات، وقانون القوة والعادات القبلية هو الذي يحكمها، ويتحكم بمصائر أفرادها، ومن الطبيعي أن يتم استبدال شرطة المحتل في الفيلم، بجهاز بوليس قمعي في أي دولة عربية، وقتها لن نجد فارقاً يُذكر، وهو ما تؤكده حالة المعاناة الجماعية، التي تعيشها كل شخصيات فيلم «عجمي». فالجميع لديه أمل في الهرب دون جدوى، عمر من الثأر، وحنا من بيئته، ومالك من البوليس، وداندو من حياته الكئيبة.
بناء ملحمي وسرد حداثي
ينسج الفيلم محاوره السردية من خلال ثلاث شخصيات رئيسية (عمر/وحنا/وداندو). تتزامن حكاياتهم وتتداخل مع الصراعات الصغيرة التي تجسد طبيعة الحياة فوق هذه البقعة المشتعلة من الأرض، التي تنوء بأوبئة المجتمعات المنسية، من جرائم منظمة وتجارة مخدرات وبطالة، وفوق كل هذا قوى الاحتلال، التي تحاول السيطرة حسب مشيئتها وتحقيق العدالة وفق هواها، تاركة النزاعات بين العرب وبعضهم، وبين العرب والإسرائيليين رهينة مصالحها العليا، بينما الجميع يعانون المعاناة نفسها، دون تبجيل رومانتيكي لطرف عن آخر.
عمر
يجد نفسه بالمصادفة هدفاً للقتل، نتيجة تورط أحد أقاربه بإطلاق النار على آخر، جعله قعيداً، فما كان من عائلته إلا تطبيق آفة الثأر المتأصلة في التكوين العربي، وقد أوقع عمر حظه العاثر أن يصبح هو الضحية، وقربان العرف العربي. هذا القربان نفسه يتم التعامل معه من قِبل إلياس المسيحي والد الفتاة التي يحبها عمر، والذي لم يجد عمر في البداية مَن يُساعده على عقد الهدنة بينه وبين العائلة العربية المسلمة، سوى إلياس، المتسامح والمتمتع بسمعة وسطوة لا تتوافر لأحد في الحي. إلا أن تعاطفه مع عمر ينقلب إلى عداء شديد، بمجرد معرفته بعلاقة عمر وابنته، ويتحول الرجل المتسامح في لحظات إلى أحد المتشددين المتعصبين، طارحاً اختلاف الديانة عائقاً أمام قصة الحب، ثانياً لأن عمر ــ الآن ــ شبه محكوم عليه بالموت، وما هي إلا مسألة وقت. فهو يرفض أي علاقة بينه وبين ابنته، بل ويتواطأ مع الشرطة للإيقاع بعمر، والتخلص منه نهائياً.
التسامح نفسه الذي يجعل إلياس يأوي مسلماً آخر وهو مالك، ليعمل لديه دون إقامة شرعية، ويدبّر له نفقات علاج أمه المريضة، حتى أنه وابنته يتذكران جيداً عيد ميلاد مالك، الذي أتم السادسة عشرة، ويقيمان له حفلاً صغيراً، وكأنهما بالفعل أسرته الحقيقية، وهو أصغر أفرادها. لينقلب إلياس أيضاً عند مواجهة موقف حقيقي يمسّه مباشرة، فلا تعود الحكمة هي التي تقوده، بل التعصب، حتى أنه يرسل مالك لمرافقة عمر، وهو يعلم أن فرصة نجاته شبه منعدمة.
حنا
يرتبط بصديقة إسرائيلية، ويحاول الفرار من الحي العتيق الذي ولد فيه، والانتقال للعيش مع صديقته في تل أبيب، ويلاقي التوبيخ من رفاقه، أنه منذ زمن وهو يرفض حياتهم وبيئتهم، ويتعلق باليهود، وها هو الآن يريد ترك الحي تماماً والسعي خلف امرأة إسرائيلية. إلا أنه يتورط في تجارة المخدرات التي يقوم بها أخوه، فيصبح هدفاً للشرطة، التي تحاول السيطرة على هؤلاء التجار. فالحياة التي يحياها حنا، هي المثل والحلم بالنسبة لباقي شباب الحي، بداية من الملابس الغالية الثمن، إلى بيته الخاص، وحفلاته التي تجمعهم، وحالة الحريّة ونسيان الخوف والقلق الدائم الملازم لهم، كعمر والموت الذي يلاحقه، ومالك والموت الذي يلاحق أمه.
حنا الوحيد الذي يوفر للجميع أوقات مسروقة من السعادة، وكأنهم في حلم لا يريدون مغادرته أبداً. ورغم ذلك يقع حنا بين لوم أصدقائه على ترك الحي ومصادقة فتاة يهودية، لا يمكن حُسبانها سوى من الأعداء، إضافة لاختلاف الديانة بينهما. وعلى الجانب الآخر يحاول حنا التعلق بمجتمع وطريقة حياة صديقته، يرقص ويشرب ويتحدث العبرية، إلا أنه عندما يغضب أو ينفعل، لا يجد سوى العربية التي تخرج بها مفرداته أكثر صدقاً وقسوة، فيفشل في الانتساب إلى مجتمع هارب إليه، ليعود سيرته أمام نفسه، وكأن حالة التصالح أو الهرب، ما هي إلاّ حالة مصطنعة، تنكشف فور خروجه عن سيطرة عقله.
داندو
ضابط الشرطة الإسرائيلي في الحي نفسه، والمكلّف بتحقيق الأمن، والقبض على تجار المخدرات، الذين يفوق عددهم الحصر، إلا أنه يعاني أمراً آخر يرمي بظلاله على حياته وحياة أسرته، فأخيه المجند مفقود منذ زمن، وهو يحاول البحث عنه دون جدوى، فقط للتأكد بأنه ما زال على قيد الحياة. يُلاحظ على الجميع أن الصراع النفسي في الأساس هو ما يحاولون الفكاك منه، أو مواجهته كل بطريقته. عمر الذي يحب فتاة أقرب إلى الثراء، أو الاستقرار المادي إلى حد كبير، أصبح مُضطراً للإتجار في المخدرات، كما أن الموت ينتظره في النهاية، بينما حنا حائر بين هويته، التي تسبب له الكثير من المشاكل، وبين حياة أخرى يرغب العيش في ظلها، وأخيراً داندو الذي يحاول أن يتعامل بعقلية ضابط الشرطة المنضبط، وأن يكون هدفه هو تطبيق القانون، فلا يجد غير لوم الزملاء، الذين يصفون طريقته بأنها غير مجدية، ولكن فقده أخيه، جعله أكثر تشدداً، الأمر الذي أدى في النهاية إلى نسيان القانون ونسيان مهنته، ليصبح قاتلاً.
مزحة ديمقراطية إسرائيل وتهافت العرب
كلمة أخيرة حول ما أثاره الفيلم من ردات فعل متباينة داخل إسرائيل وخارجها.
بدايةً اعترض الكثير من العرب على الفيلم بحجتهم الواهية نفسها بأنه من إنتاج إسرائيل، التي لا يقتصر اعترافهم بها إلا جهراً. والبعض الآخر من العرب أثنى على الفيلم، بل وعُرض في العديد من المهرجانات العربية، والسبب يعود إلى موقف إسكندر قبطي حينما أعلن عند وصول فيلمه للترشيحات النهائية للأوسكار وقتها، قائلاً «أنا لا أمثل دولة إسرائيل كما أن الدولة ذاتها لا تمثلني». وبينما عبارة قبطي ــ الذي عمل في بداياته مساعداً لعيران ريكليس ــ صالحته مع بعض العرب، نجدها فجّرت أزمة حادة داخل إسرائيل، التي لم تتوقع ديمقراطيتها هذا التصريح، فهاجمه العديد من نواب الكنيست، خاصة اليمين بمواقفه المعهودة ــ والتي تتشابه وجهل المتشددين المتأسلمين عندنا ــ حتى أن الأصوات تعالت باقتراح تعديلات على قوانين السينما الإسرائيلية، تتلخص في أن تتوقف الهيئات المعنية في الدولة العبرية عن منح أي عمل سينمائي التأييد والدعم، إلا بعد حصولها على تعهد مكتوب من مخرج الفيلم، والمؤلف والمنتجين والممثلين المشاركين فيه، بعدم المساس بالولاء لدولة إسرائيل، ورموزها اليهودية والديمقراطية.
محمد عبد الرحيم