في أعمال القطرية أمل العاثم: طرقات رسمتها الإبر لأشباح نساء
[wpcc-script type=”246ac2a104ad74e2d440e9c1-text/javascript”]
نساء كثيرات يمرّن أمامنا وكأنهن يعبرن اللوحات لأمورٍ أهم من أن يكنّ موديلات للوحة أو عنصراً في عمل فني. نساء الفنانة القطرية أمل العاثم (بكالوريوس التربية الفنية من جامعة قطر عام 1995، ودرست التصميم الداخلي في الكويت، وشاركت في العديد من المعارض ما بين المحلية والدولية، وحصلت على مناصب عديدة في وزارة التربية والتعليم، وفي وزارة الثقافة والفنون والتراث حيث ترأست مركز الفنون البصرية)، دائمات الحركة، يتجهن إلى أقصى اللوحة دون أن نعرف ما الخطوة التالية. بعضهن يتجمعن في وسط العمل، وكأنهن في استراحة قصيرة. خمس دقائق من الثرثرة وبعدها يكملن المشوار، خيارات الطرق أمامهن واسعة للغاية مرسومة من خلال خطوط متقطّعة بالأبيض وكأنها مسار للسيارات في منتصف الشارع. وتبدو في أماكن أخرى وكأنها قُطب تركتها إبرة في نسيج اللوحة، بل هي غالباً كذلك، لتكسب اللوحة بذلك جانباً أنثوياً إضافياً يمنحها ثراءً أكثر في الخامات المستخدمة عند دخول القماش والخيوط بالمجاورة مع ألوان الأكريليك.
العباءات ذات القماش الأسود ـ اللباس التقليدي للمرأة الخليجية – تختصر وجود المرأة، فتبدو العباءة وكأنها فارغة لا وجه فيها ولا جسد. فهي إن كانت معدّة لتحجب مفاتن الجسد فقد حجبت المرأة بأكملها هنا. خيالات لنساء كثيرات بعضهن مرسومات بتخطيطات خارجية مع المحافظة على الشكل الذي تعطيه العباءة للمرأة، والذي أظهرته العاثم بشكل واضح من خلال ضربات ريشتها التي تنساب على جسد المرأة برشاقة، وأخريات يملأ سواد العباءة أجسادهن، فنرى أن النسوة أصبحن نسخاً من امرأةٍ واحدة تقليدية دون أن يحملن أي تفاصيل شخصية مميزة كما كن في لوحات من مراحل سابقة من أعمال العاثم حيث كانت وجوه النساء تحتل مساحة العمل بمعالم واضحة ومزيّنة.
لكننا نلاحظ أيضاً أن النساء حينها كن متكورات على أنفسهن في حالة من القلق وعدم الراحة، أما الآن فهن ينتصبن في الأعمال بشموخٍ وثقة وكأنهن النخل الباسق وسط الصحراء، يحملن خيره ومدلوله المتصل بالهوية والتراث، حيث كان يظهر سابقاً بشكلٍ مباشر مع حاراتٍ قديمة مكتظّة بالبيوت في لوحات العاثم، إلى أن استبدلته بنسوتها وصارت الأشجار المجاورة لهن مجرد أعواد يابسة طويلة.
تقوم العاثم في بعض اللوحات بتصوير حركة المرأة من خلال تجسيد مراحل الحركة فوق بعضها كالتقنية المستخدمة في صناعة الرسوم الكرتونية ثنائية الأبعاد، أو لعلهن عدة نساء متواجدات في نفس المكان في نوع من الحماية لهن، حيث يفترض الأمان عند سفر مجموعة من النسوة، يقصدهن نفس الطريق والوجهة لديهن واحدة. خيالات متراكبة لأشباح نساء يردن قول الكثير، نهضن من وسط الضباب الذي كان يملأ أعمال العاثم في أعمال تجنح إلى المدرسة الانطباعية، ليصبحن تكوينات في ألوان واضحة وقوية في لوحات أقرب إلى التجريدية، بسطوح صافية تكون أحياناً حيادية إلى حدٍ كبير، بوجود اللون الأسود ولون البيج أيضاً. لكن جمود هذه الألوان تكسره ضربات درامية بالفرشاة، بالأحمر أو الأصفر، تعيد الرونق للعمل وتكسبه معاني تكسر نمطيته. كذلك تزيد قوة الألوان ضربات فرشاة واثقة ترشق اللون بطرق عبثية، أفقياً في الغالب أو شاقولياً، وبين البينين في زوايا مختلفة. ويحدث أحياناً أن يمتد فوق اللوحة لونٌ خفيف وكأنه ظلٌّ لشيءٍ مبهم يحلق فوق اللوحة تماماً، ينبسط ليغمرها ويغرق شخصياتها.
تقول العاثم : «على الرغم من المصير الإنساني المشترك، تبقى تساؤلات المرأة خفية وراء ستائر سميكة من الأحاديث عن التهميش والضعف، الأمر الذي ألهمني أكثر لاستخدام ألواني وشظايا نفسي التي بعثرتها مثل هذه الأحاديث. وأحاول في لوحاتي أن أصور عمق الأذى، وأن أرسم صورة مكتملة جديدة عن كينونتي كامرأة وإنسان».
أعمال العاثم تحمل أنوثة باذخة كانت تتجلى في البدايات من خلال خطوطها اللينة والمنحنية والتي كانت تشمل كل العناصر (نساء، بيوت، أشجار، غيوم…)، ومن خلال ألوانها المتدرجة الفاتحة، لتخفف ذلك الآن وتصبح الألوان أقوى وأشدّ حضوراً، ولتتكسر أيضاً الانحناءات وتصبح الخطوط المستقيمة حاضرة بعض الشيء لتعوّض عن غياب الرجل في اللوحة.
لا ينافس المرأة في حضورها في أعمال العاثم سوى القمر، بجماليته وارتباطه بالذكريات وشكاوي الليل ورومانسيته بالإضافة إلى كونه مصدر التشبيه الأول في مدح جمال النساء، فيحضر وجهه وهو متموضع في كل المنازل: هلال، وبدر، ومحاق. تتأمله جيداً فتلاحظ ملامحه وهي متخفيّة خلف بياضه الفضي، يضيء الطريق للنسوة، ويمنحهن من بياضه لتشع عباءاتهن بالنور، فينتقين طريقاً من الطرق المتداخلة أمامهن كخيوط صوفٍ عبث بها هرٌّ طوال السهرة. وحين يظهر القمر أحياناً بلونٍ أسود، نتساءل: هل هو الخسوف، أم أن الحزن وكظم الغيظ غيّر لونه؟ وهل حين ينقسم في المنتصف تماماً، أحياناً، فإنه عندها يحمل لونين، ويكون قمراً بروحين؟
تقف أمام الأعمال وتسمع أصواتاً كثيرة، أعمال العاثم ليست صامتة أبداً، تملك الكثير لتقوله، لا تكتفي بفهم المتلقي لإشاراتها الرمزية التي تملأ أعمالها، بل تستعين بنصوصٍ مكتوبة تعطي دلالاتٍ واضحة، فنجد أن خلفية معظم أعمالها الجديدة عبارة عن كتابات تتوزّع بشكل منتظم في مساحات دائرية وكأنها أختام تملأ صفحة اللوحة. هنا يبدو العمل أشبه بوثيقة تستطيع، إن دققت النظر فيها جيداً، أن تقرأ ما يحتويه الختم كما اقترحنا تسميته.
وبدورها تقول العاثم أنا هنا، منتقلةً من جمالية الألوان والأشكال إلى قوة الأفكار في أعمال تركيبية مفاهيمية، تتنوع ما بين لقطات فوتوغرافية – لنساء أيضاً – تظهر إحداهن وهي في رحلتها الأخيرة نحو القبر بلباسٍ أبيض، إذ أخيراً خلعت العباءة السوداء، وتظهر أخرى أمام البحر في ظلمات الدجى وكأنها تودّع أحداً ما. وبالإضافة إلى أعمال تعتمد على تقنية الكولاج ويتوضّح في بعضها ما هو داخل العباءة، هنالك عباءة مفتوحة وفي داخلها تفاصيل كثيرة من أرجل وأزهار وكتابات وما إلى ذلك، وفي أعمال أخرى تتبدى أجزاء من نساء مختلفات ونساء كاملات لا رابط بينهن سوى أنهن ضمن عمل للعاثم.
وهكذا تحاول الفنانة أن تجعل أعمالها معادلاً بصرياً لكثير من الكلام المتعلق بالعادات والتقاليد، والأساطير وجماليات المرأة والبيئة المحيطة، وكذلك تسعى لأن تترك بصمة في أفق الفن التشكيلي العربي من خلال تركيزها على مواضيع تحمل على كاهلها همّ هذا المجتمع، وتسعى لتصويرها بصيغ جمالية تفضح قبحها.
بسمة شيخو