في الأعمال الشعرية للعراقي نبيل ياسين: أرق المنفى وذاكرة المدن القديمة

في مقدورك أن تقرأ الكتاب دفعة واحدة ثم تعود إليه مجددا لتقرأ من المنتصف أو من الخواتيم، أو ربما من البداية مرة أخرى؛ الكتاب الشعري له سحره الخاص وحين نفرغ من قراءة كتاب شعري فإن السؤال الذي يتبادر إلى أذهاننا دائما: «أين هو الشعر؟!»- كما أشار الشاعر والروائي عباس بيضون يوما ما في ثمانينيات القرن المنصرم. نسأل أنفسنا «أين الشعر؟» حين نظن أننا فرغنا من قراءة كتاب ما، لكن القراءة لا تبتدئ حقا إلا بعد نسيانه لوقت يقصر أو يطول، حين يعيدنا إليه مقطع شعري أو صورة تخطر على البال بإلحاح، نهرع مجددا للبحث في أضابير المكتبة، عن الكتاب، لتبدأ القراءة فعلا؛ هل لذلك صلة بما سماه العرب القدامى من نقّاد الشعر بـ«بيت القصيد»؟ هل ما يمنح الكتاب الشعري حياته في الذاكرة والوجدان، هو ذلك المقطع أو تلك الصورة التي ترسخ- وحدها- في الوجدان والذاكرة وتعيدنا مرة أخرى إلى الكتاب، هل هو رسوخ بيت واحد يعيدنا إلى القصيدة؟

في الأعمال الشعرية للعراقي نبيل ياسين: أرق المنفى وذاكرة المدن القديمة

[wpcc-script type=”a8b5c6c56d48f9e17bce7ae7-text/javascript”]

في مقدورك أن تقرأ الكتاب دفعة واحدة ثم تعود إليه مجددا لتقرأ من المنتصف أو من الخواتيم، أو ربما من البداية مرة أخرى؛ الكتاب الشعري له سحره الخاص وحين نفرغ من قراءة كتاب شعري فإن السؤال الذي يتبادر إلى أذهاننا دائما: «أين هو الشعر؟!»- كما أشار الشاعر والروائي عباس بيضون يوما ما في ثمانينيات القرن المنصرم. نسأل أنفسنا «أين الشعر؟» حين نظن أننا فرغنا من قراءة كتاب ما، لكن القراءة لا تبتدئ حقا إلا بعد نسيانه لوقت يقصر أو يطول، حين يعيدنا إليه مقطع شعري أو صورة تخطر على البال بإلحاح، نهرع مجددا للبحث في أضابير المكتبة، عن الكتاب، لتبدأ القراءة فعلا؛ هل لذلك صلة بما سماه العرب القدامى من نقّاد الشعر بـ«بيت القصيد»؟ هل ما يمنح الكتاب الشعري حياته في الذاكرة والوجدان، هو ذلك المقطع أو تلك الصورة التي ترسخ- وحدها- في الوجدان والذاكرة وتعيدنا مرة أخرى إلى الكتاب، هل هو رسوخ بيت واحد يعيدنا إلى القصيدة؟
ما الشعر وما القصيدة، أسئلة مستلة من سياق عبق الستينيات ومطالع السبعينيات الشعرية من القرن المنصرم، وتنقيب نقادها في مناجم الحداثة، ثم ما «الحداثة؟» وتلك ليست قصة أخرى، في خضم تلك المرحلة، التي ربما يبدو النبش في إرشيفها والخوض في مناخاتها- الآن- نوعا من النزوع الكلاسيكي، ويا له من نزوع ويا لها من «حداثة»

الأوقات القاسية

«خارج من رماد الإقامة في الثورة الجانحة/ والملائكة الصامتون/ ينحنون لأغنيتي/ ما حياتي سوى كوكب يتدحرج، مستسلما للرياح/ تستطيعون رؤية موبقتي: أنظروا بتمعُّنِ قطٍّ إليكم/ هكذا سأجرُّ، وتمضي حياتي، خيطا من الاختيار الرفيع/ حاسما مثل زوبعة/ ساقطا في مفازة فجر وسيع/ في أثير الجثث».
أعادتني «الأيام القاسية» مجددا لكتاب «الأعمال الشعرية» لنبيل ياسين، بإلحاح، بعد أن قرأته أكثر من مرّة، قراءة «أعمال شعرية» تستدعي- في حد ذاتها- مناخات شعرية مختلفة وأجواء نقدية متعددة، يصبح الأمر أكثر تعقيدا من قراءة كتاب شعري واحد أو قصيدة واحدة، حين تقرأ قصيدة لشاعر ما، تنظر في البناء، بناء القصيدة في مستوياتها المتعددة وتركيبها الفني، وحين تقرأ كتابا شعريا تنظر في «تجاور النصوص- القصائد» وبناء الكتاب يكشف رؤية الشاعر الفنية والفكرية في تركيب نصوصه- القصائد، كوحدات مستقلة في نسق واحد بقصدية معينة، بالضرورة؛ حين تقرأ «أعمالا شعرية» تتحول «الكتب» نفسها إلى وحدات مستقلة، في سياق اختيارات الشاعر لنسق أكثر تعقيدا، كما أشرنا أعلاه.
الأعمال الشعرية التي تبدأ بمجموعة «البدء والمعاد» وتنتهي بـ «العشاء العباسي» مرورا بعناوين: الشعراء يهجون الملوك، الأوقات القاسية، قصيدتان، أحلام شاقة، سماء ثامنة، ورد ورمل، حدث ما بين النهرين، الأخوة ياسين، بلاد الرافدين، طقوس إلى الأبد، زينب، صهيل في غرفة، دعوني أعبر هذا العالم، بغداد- نيويورك؛ هي خلاصة تجربة امتدت لأكثر من أربعة عقود من الزمان.

قصيدة السيرة الذاتية

«في الطريق إلى العائلة/ في المساء الأخير/ محاطاً بسلسلة من دمٍ، قابضا في جزر السرطان الجميلة/ ممتلئا بكواكب مربوطة بالندى/ طائشا/ ثم مختبئا بجنونٍ عميق»، هكذا يستهل نبيل ياسين مطولته «الأخوة ياسين»- من جزئين، كتبها في مطلع تسعينيات القرن المنصرم في منفاه- وقتها- بودابست، وتنتظم المطولة في غنائية عالية كأسرودة لسيرة ذاتية شعرية في رثاء الأب، يرتفع النص بمستوى «الرثاء» كغرض شعري تقليدي إلى فضاء آخر حيث يمتزج الذاتي بالموضوعي، وتتشابك الرؤى والأخيلة مشكلة صورا شعرية تسرد سيرة الأب والعائلة، وتلامس جراح الوطن وقسوة المنفى، والحنين إلى «أريدو» و«كربلاء»؛ ينتقل الشاعر في الجزء الثاني من المطولة بمستهله السابق في الجزء الأول منها إلى فضاء آخر: «مرة ثانية/ في الطريق إلى العائلة/ في الطريق الذي يعبر العالم البربريّ إلى العائلة/ بشر واجمون انتظارا لرحيل طويل، طويل إلى العائلة»، وتتحرّك الجملة الشعرية «في الطريق إلى العائلة» على مدى النص لتنتقل به إلى سياقات متعددة: «والطريق إلى العائلة/ في الطريق إلى وطني/ واقف في الطريق إلى العائلة، ..إلخ».
ربما شكلت مطولة «الإخوة ياسين» امتدادا لقصيدة «موت ياسين»، ضمن مجموعة «قصيدتان» التي صدرت في بيروت في مطلع ثمانينيات القرن المنصرم، أو ربما كانت- على المستوى الفني- الوجه الأكثر تطورا، حين ننظر في الإيقاع وتركيب الصور الشعرية؛ في «موت ياسين» يبدو الجرس الموسيقي صاخبا، والنزوع إلى «التقفية» عالياً، واللعبة السردية مكشوفة ومباشرة: « ياسين مضى/ لم يترك عنوانا للموت/ سألت مشيّعه/ قال سنذهب للبرية/ هو لا عنوان لديه/ هو لا يعرف تاريخ ولادته/ هو لا يعرف تاريخ حياته/ هو يجهل كيف يجيء، وماذا يفعل/ هو لا يسكن في الماضي والحاضر والمستقبل».

قصيدة النثر وأخواتها

«الحكماء القدماء/ وضعوا أسس العيش وفق هواهم: الصدق والعدالة والإخلاص والمساواة/ ضاقت الفلسفة بكل ذلك وطوّحت به في فوهة المدفع». يجرّب نبيل ياسين في مطولته «صهيل الغرفة» شكلا شعريا مختلفا ضمن متن أعماله، هنا يطرق أبواب قصيدة النثر لكن أي قصيدة نثر؟ ربما لم يعد كافيا أن تقول «قصيدة نثر» وكأنك تشير إلى شيء معلوم، فمنذ أن أبحر النقّاد في خضم المصطلح المضطرب، وخاض الشعراء بركابهم في لجج الإبداع في رحابها، تعدّدت المدارس- إن جازت التسمية- وتنوعت الأساليب، وتتابعت الأجيال بنقادها، يمكننا القول هنا- إن أردنا الدقة- أن هذه المطولة اتخذت نسقا فنيا مختلفا عن بقية مجموعات الأعمال، وأن الأداء اللغوي فيها يتسم بالنظر في العلاقات والبناء أكثر منه في تكوين الصورة الشعرية، كما نطالع في مجموعات أخرى اعتمدت على «التفعيلة»، والحسِّ الغنائي الدرامي؛ نقرأ في نص «كرنفال لامرأة»: «نرمي النرد على بحر من ملابسنا ونعرى/ ونفيض من جنس كطعم الجنس/ ثم نمرُّ من صرخاتنا/ ونمرُّ من أرض لأخرى/ نرمي ملابسنا على حلمٍ ونعرى/ نرمي مشاعرنا على ماضٍ وذكرى/ نرمي التحية في الطريق».
نلاحظ أن ياسين في أعماله الشعرية يشتغل على المطولة الشعرية المركبة، وعلى القصيدة الطويلة الغنــــائية البسيطة، ويلعب على القافية وأوزان الخليل في القالب التقليدي، ويشتغل على القصيدة القصيرة المكثفة، وفـــــي نصــه «لعبة شكل» يتوسل أدراج رسومات معينة في متن النص كمفردة تشكيلية من ضمن مفردات القصيدة.

٭ شاعر وصحافي من السودان

في الأعمال الشعرية للعراقي نبيل ياسين: أرق المنفى وذاكرة المدن القديمة

الصّادق الرضي

Source: alghad.com

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *