في الهناك… ما بعد العاصفة
[wpcc-script type=”6e472c0222cdeef2ee2edbc3-text/javascript”]
■ لا يفهم العاصفة إلا من يحيا في قلبها. قد تكون نوعًا من الشجار بين الأرض والسماء، نوعًا من الحوار. قد تكون قطعًا للحبل السرّي بينهما. أو قد تكون عقد قران بينهما وما يليه. لكن سكون ما بعد العاصفة، يجعل جرح الأرض نشاطًا وجدانيًا متفاعلًا مع الملح الآتي في كلّ مدّ وجزر، بحسب مزاج السماء.
وكأنّ الأرض والسماء خصمان لدودان وعاشقان أبديان، كالروح والجسد في الإنسان، ثنائية أُهرِقَ فيها فكرٌ كثير، ودمٌ كثير. كلاهما محكومان بالعيش معًا، أحدهما سقف للآخر، الشمس حاكم بينهما، الطلاق مطلوب والحكم غير قابل للتنفيذ، والصراع دائر ما دامت الأرض تدور. العاصفة استجابة لنداءات المتمرّدين، حين يصبحون كثرًا. للطبيعة ناموس ووجدان أيضًا. تفرح وتزهو وتنتشي، تحزن وتغضب وتنذر وتؤنب، تحقّق عدالة، تستوي فيها
كفّتا المانح والممنوح، الفوق والتحت.
الأرض تنصت طويلا، وتتلقى أسواطًا كثيًرة. الأرض الصامتة تخيف، تخيف بنظراتها، بوعيد ترابها، بتيبس ألوانها، بجفاف عطائها. صمت الأرض تجلّ من تجلّيات مقاومتها، وكلامها عطر التراب الممزوج بماء الصفح وزيت العطاء الفوّار على وجهها…
السماء تحترف الوعود كثيرًا، السماء تحترف تأجيل تحقيق الوعود، ترسل كلامًا بأحرف كبيرة مع الملائكة. الملائكة لا تتيه بالعناوين. لكنّها لا تنتظر إجابات.
مسكين آدم، وارث كليهما، من روح وطين وصراع أبديّ… بين الآن والآتي، بين الهنا والهناك. مسكين آدم، وقد حكم عليه بقانونين وعدالتين وانتماءين، وازدواجية لا ترحم عقله من الفصام.
ما بعد العاصفة ليس كما قبلها. العاصفة تنقلنا جميعًا إلى الهناك، الهناك الذي كان يومًا بعيدًا جدًا، على مرمى الأمل الصخوب غير المحقّق إلا في حيّز الأحلام. في العاصفة تعتقد أنّك في صراع، صراع أبديّ مع عدوّ، هو العالم خارجًا عنك، تحاربه بكلّ ما أوتي لك من أدوات وآليات، بك خلاياك وما زرعَ فيك من أوهام وطقوس وردّات فعل معدّة سلفًا. فالعاصفة استجابة لنداءات الأرواح المتوقّدة التي أتعبتها الصنميّة والتنميط والتعليب على قاعدة المحدود والتناهي. ما بعد العاصفة، تدرك أنّ خلاياك تحارب بعضها، أنّك في صراع أزلي مع الذات، وأنّ الخارج ليس إلّا مرآة، انعكاسًا، هربًا، محاولة ترويض العينين للنظر في اتجاهات أُخرى، تختلف عن تلك التي اعتادت عليها.
في الهناك، أنت والعالم واحد، أنت من ترابه وهو من ترابك. أنت من مائه وهو من مائك. في الهناك تصالح انتماءيك وازدواجيتك، ينصهر في روحك وطينك ضوء صغير، ربّما يكون نجمًا هاربًا أرسله إليك ملاكك الحارس. بعيدًا بعيدًا جدا، في الهناك، تكنّس البصيرةُ إرثَك الذي رميتَه للمسافات. المسافات عينها التي سكنتها عيناك من زمن ولّى.
في الهناك، ترشدك الريحُ إلى صوت الفطرة فيك. في الهناك، بعيدا، تصفو المرايا، لترى، وجهَ طفل لم تكسّر ابتسامتَه لعبةُ الظلال. وجهَ طفل لم يمحُ بعدُك عنه بريقَ عينيه.
في الهناك أيضًا، بعيدًا، حيث لا تحمل معك إلا غربتك، ترشو بها العصافير لتعلّمك التحليق في مواويل الانعتاق. في الهناك، أنت حقيقتك. لا أوهام، ولا ضلال مبين أو غير مبين. في الهناك، بعيدًا، بعيدًا جدًّا، حيث وعيُ سعادتك أهمُّ من السعادة، ووعيُك ذاتَك أهمُّ من تغييرها، ووعيُك العالمَ في وجدانك لا ينسيك منطق الرماد… منطق الرماد، هو عينه الذي هربت منه. في الهناك تدرك أنّ الحبّ هو أن تعيش حياة كاملة بين نبضتين.. أن تدمن المدى فرحا بانعكاسه في الإنسانية الحقة. في الهناك أنت حرّ أكثر مما يسمح لك طينُك، وأسيرٌ أقلّ ممّا اعتادت روحك.
للعاصفة سحر الكشف عن كلّ ما نَسَجْتَه سترًا لعريك، سحر الكشف عن كلّ ما حَجَبْتَ به التوقَ الكامن في قلبك. التوق الذي به تحترف اشتهاء الزمن وامتلاك الفجر في العينين.
الطرقات إلى الهناك لا يمكن أن تُختصر، فتلك التي يمكن لها ان تُختَصَر، لا يُعَوٌل على نهاياتها، كما الأحلام التي يمكن لها أن تنتهي، ليست أحلامًا.
بين الهنا والهناك، عمرٌ يمضي، العواصف مواسمُ، والحصاد سنابل وعي، تشتّتها الريح حينًا، وتغفو في غمراتها أحايين أُخَر.
٭ قاصة لبنانية
ناتالي الخوري غريب