في ذكرى أربعين جمال الغيطاني: «حكايات الغريب» … مرثية الشهيد الحي

القاهرة ـ «القدس العربي»:مرّت منذ أيام ذكرى أربعين الروائي (جمال الغيطاني 9 ايار/مايو 1945 ــ 18 تشرين الاول/أكتوبر 2015)، والكثير تناول أعمال الغيطاني الأدبية بالنقد والتحليل، ولكن هنا نحاول أن نلقي نظرة على عمل سينمائي هام، مأخوذ عن حكاية من حكايات الغيطاني. فيلم «حكايات الغريب» وهو من الأعمال القليلة والنادرة التي حاولت تجسيد نضال المواطن المصري، بعيداً عن الدعاية المتهافتة والكلاشيهات الفارغة. فالكثير من الأعمال الدرامية تناولت بطولات الحرب وأهوالها على نفوس المصريين، إلا أن غالبيتها لم تكن على مستوى الحدث، فجاءت في شكل دعائي فج، وبصورة أكثر مباشرة وفجاجة لصالح نظام وانتقاماً من نظام سابق «الرصاصة لم تزل في جيبي» على سبيل المثال رغم جودة بعض هذه الأفلام من الناحية الدرامية والتقنية. ويتصدر القائمة في الأفلام ذات الدلالة الفنية والحرفية السينمائية فيلم «أغنية على الممر» إخراج علي عبد الخالق، وتأليف علي سالم. والذي يتشابه في أسلوبه وطريقته أفلام صوّرت المقاومة الفرنسية وقت الحرب العالمية الثانية، لحالة الاختزال البصري والسردي القائم عليها بالأساس، دون شروحات البطولة أو ادعائها. لكن التلفزيون المصري وقتما كان هو المُسيطر على الإنتاج الدرامي قام ــ دون قصد ــ بتقديم فيلم من أفضل الأفلام التي تناولت حالة المواطن المصري الذي ساقته الظروف إلى العيش على حافة الموت، ليس من خلال جبهة القتال فقط، لكن الأكثر ألماً أنه عاش هذا الموت وسط مجتمعه، الذي لم يرحمه وقدمه قرباناً لاستمراره المُتردي. يأتي فيلم «حكايات الغريب» 1992 ليتناول حياة هذا المواطن الذي يتشابه وملايين المصريين في الظروف النفسية والاجتماعية والاقتصادية بالطبع، المقهور دوماً، والمنسي من الجميع، وفي لحظة ما يصبح هو الرمز الباقي، حتى لو فقد وجوده الفعلي بالغياب، مع تأكيد حضوره كذكرى، تماماً كحال جموع المصريين، مجموع مجهول، من السهل الحديث عنه بصيغة الجمع الغائب، لكن وجوده لم يزل يؤرق الكثيرين، خاصة حُكامه وأشباههم من هزليّ السُلطة وممثليها. الفيلم بطولة محمود الجندي، مدحت مرسي، شريف منير، حسين الإمام، محمد منير، مخلص البحيري، نهلة رأفت، وهدى سلطان. عن قصة جمال الغيطاني، سيناريو وحوار محمد حلمي هلال، تصوير سعيد شيمي، موسيقى ياسر عبد الرحمن، ومن إخراج إنعام محمد علي.

في ذكرى أربعين جمال الغيطاني: «حكايات الغريب» … مرثية الشهيد الحي

[wpcc-script type=”698d1e10ddcd205035dc2ace-text/javascript”]

القاهرة ـ «القدس العربي»:مرّت منذ أيام ذكرى أربعين الروائي (جمال الغيطاني 9 ايار/مايو 1945 ــ 18 تشرين الاول/أكتوبر 2015)، والكثير تناول أعمال الغيطاني الأدبية بالنقد والتحليل، ولكن هنا نحاول أن نلقي نظرة على عمل سينمائي هام، مأخوذ عن حكاية من حكايات الغيطاني. فيلم «حكايات الغريب» وهو من الأعمال القليلة والنادرة التي حاولت تجسيد نضال المواطن المصري، بعيداً عن الدعاية المتهافتة والكلاشيهات الفارغة. فالكثير من الأعمال الدرامية تناولت بطولات الحرب وأهوالها على نفوس المصريين، إلا أن غالبيتها لم تكن على مستوى الحدث، فجاءت في شكل دعائي فج، وبصورة أكثر مباشرة وفجاجة لصالح نظام وانتقاماً من نظام سابق «الرصاصة لم تزل في جيبي» على سبيل المثال رغم جودة بعض هذه الأفلام من الناحية الدرامية والتقنية. ويتصدر القائمة في الأفلام ذات الدلالة الفنية والحرفية السينمائية فيلم «أغنية على الممر» إخراج علي عبد الخالق، وتأليف علي سالم. والذي يتشابه في أسلوبه وطريقته أفلام صوّرت المقاومة الفرنسية وقت الحرب العالمية الثانية، لحالة الاختزال البصري والسردي القائم عليها بالأساس، دون شروحات البطولة أو ادعائها. لكن التلفزيون المصري وقتما كان هو المُسيطر على الإنتاج الدرامي قام ــ دون قصد ــ بتقديم فيلم من أفضل الأفلام التي تناولت حالة المواطن المصري الذي ساقته الظروف إلى العيش على حافة الموت، ليس من خلال جبهة القتال فقط، لكن الأكثر ألماً أنه عاش هذا الموت وسط مجتمعه، الذي لم يرحمه وقدمه قرباناً لاستمراره المُتردي. يأتي فيلم «حكايات الغريب» 1992 ليتناول حياة هذا المواطن الذي يتشابه وملايين المصريين في الظروف النفسية والاجتماعية والاقتصادية بالطبع، المقهور دوماً، والمنسي من الجميع، وفي لحظة ما يصبح هو الرمز الباقي، حتى لو فقد وجوده الفعلي بالغياب، مع تأكيد حضوره كذكرى، تماماً كحال جموع المصريين، مجموع مجهول، من السهل الحديث عنه بصيغة الجمع الغائب، لكن وجوده لم يزل يؤرق الكثيرين، خاصة حُكامه وأشباههم من هزليّ السُلطة وممثليها. الفيلم بطولة محمود الجندي، مدحت مرسي، شريف منير، حسين الإمام، محمد منير، مخلص البحيري، نهلة رأفت، وهدى سلطان. عن قصة جمال الغيطاني، سيناريو وحوار محمد حلمي هلال، تصوير سعيد شيمي، موسيقى ياسر عبد الرحمن، ومن إخراج إنعام محمد علي.

حالة الحرب الدائمة

لم تكن حرب 73 وما تحقق وقتها من انتصار، إلا نتيجة لحظات متراكمة من الهزائم، حاول الفيلم تجسيدها في هزائم اجتماعية ونفسية في الأساس، قبل أن تتحول إلى معركة كبيرة في الصحراء. وهي محاولة لتجسيد حال المواطن المصري الذي ظن الجميع أنه تناسي أرضه المسلوبة، وبصيغة بلاغية، شرفه الضائع. لم يستغرق الفيلم إلا انعكاسات حالة الضياع هذه على الشخصية الرئيسية، التي فقدت إيمانها بكل شيء، بعدما خسرت حياتها، لكن في لحظة ما يبدو تحولها العجيب إلى شخصية تتناقض صفاتها تماماً مع صفات حياتها، أو كما كان يُقال عنها هنا نجد الشجاعة والبطولة والتضحية، ويكاد الأمر يصل إلى أفعال الأعمال الخارقة. ومن الذكاء في الفيلم الإيحاء بحالة مصر بعد الحرب، ولم يزل البحث جارياً عن السائق الغائب، لنجد صديقه وشقيق حبيبته، يقرر الذهاب إلى بلاد الجاز، للعمل وكسب المال، خاصة وأن نتائج الحرب لم تكن أبداً في صالح محاربيها من الجنود البسطاء/الشعب، بل أزاحتهم الأرض بعيداً، وهو ما غيّر كثيراً من التركيبة الاجتماعية للشعب المصري، وصفاته الحضارية الموروثة (الهجرة والعمل في بلاد الجاز)، كما يحاول المطرب الوطني أن يُجاري الجو، ويغني الأغنيات الشعبية الهابطة التي انتشرت في السبعينيات ــ هوجة أغنيات عايدة الشاعر عن الطِشت اللي قال لها ــ فهذه هي المرحلة، وهكذا طبيعتها.

السرد وطبيعته

لم يكن أمام كاتب السيناريو سوى اعتماد طريقة الفلاش باك، حتى يتم التزامن بين زمنَي الحكي. وحاول السيناريو قدر الإمكان الإفلات من الفلاش باك المباشر والمعهود، بالتمهيد والتوطئة بحركة كاميرا أو بأسلوب من أساليب الانتقال (المزج/الاختفاء) وهي ألعاب قديمة أصبحت خبرة المُشاهد تستنتجها كعلامة. نجح السيناريو في ذلك، فقط على مستوى الهروب من تقليدية التنقل بين الزمنين عبد الرحمن ورحلة البحث عنه، أما أن يتم المزج بين الزمنين من خلال تسلسل المشاهد، ومن خلال الإيحاء بوجود الشخصية التي تتنقل بين زمني الحكاية، فهو لم يحدث، مما أفقد البناء السردي حالة أكثر قوة لو تحققت (راجع فيلم كارمن لكارلوس ساورا على سبيل المثال، بغض النظر عن تماثل الشخصية الرئيسة في الأحداث والتنقل الحُر بين أزمنة الحكي). الأمر الآخر الذي يؤخذ على الفيلم هو الطريقة المسرحية للحديث عن الغريب، ومحاولة الإيحاء بحالة من القداسة حوله ووجوده، إلا أن الطابع المسرحي لتكوين الكادرات والإضاءة والأداء التمثيلي أضعف كثيراً مما كان يقصده صُناع الفيلم.

الحكاية

يُقال إن جمال الغيطاني استوحى الحكاية عن قصة حقيقية لسائق يعمل بمؤسسة «الأهرام» الصحافية، وأنه دخل إلى السويس وقت حصارها، دون أن يُغادرها، رغم تباهي الأهالي بما فعله من أعمال بطولية، إلا أنه لم يُعثر له على أثر، ولا أحد يعرف مصيره، مفقود أم مقتول، أم دفن بمقابر الشهداء التي لملمت أرواح الكثيرين. يتناول الغيطاني خط الحكاية ونهايته، ويبدأ في سرد تفاصيل حياة هذا الشخص، بداية من هزيمة عاشها وعاناها، ونصراً حققه، دون أن يشهد نهايته، وقد رحمه الله فلم يشهد نتائجه. يبدأ الفيلم بعملية البحث عن عبد الرحمن/محمود الجندي سائق عربة الصحافة الذي دخل السويس في 23 تشرين الاول/أكتوبر 1973 ولم يخرج منها، وبعد فترة يأتي مندوبا المصلحة الحكومية للتحقيق والبحث عن عبد الرحمن، والسيارة وعهدته، فيتعرفا أقاربه وجيرانه والأصدقاء المقربين، لتبدأ سرد وقائع حياته قبل لحظة الاختفاء، ومدى الحياة القاسية التي عاشها، بداية من الهزيمة وموت ابنة شقيقته في حادث مدرسة البقر الشهير، وتفشي الفساد وأعمال العنف والسرقة المتمثل في موظف الجمعية التعاونية، الذي يقوم بضرب عبد الرحمن وسرقة خطيبته منه والزواج منها. كل هذه المهازل وعبد الرحمن ما هو إلا انعكاس لأفعال الجميع، دون أي رد فعل، يتهمونه بالجنون لأنه قد يبكي أحياناً ويصرخ في حجرته، ويتهمونه بالسلبية وقِلة الحيلة، فيسرقونه حيا.

الشهيد الحي

وتتواصل الرحلات إلى السويس، والسؤال عن صاحب الصورة عبد الرحمن والكل يختلف في المُسمى ويجتمع على الوصف، فهو محمد وكمال وزخارى وخلف، والمُلقب دوماً بالـ (الغريب) لأنه ليس من أهل المدينة، وتختلف نهاياته حسب اختلاف الحكايات، فهو الشهيد والمفقود والحي. واجتمع الجميع على أفعاله التي لم يصدقها أحد من الأصدقاء، ومندوبا المؤسسة الحكومية، وكان وقع هذه الأوصاف على سَمع الأصدقاء أشد، لظنهم معرفته، فـ (الغريب) لا توصف شجاعته وأفعاله في نقل الجرحى تحت القصف، وصولاً إلى حكايات أسطورية خلقت له هالات القداسة في العيون. هنا يتحدث الجميع عن حقيقة هذا الغريب عندما قرر هو الصمت، سواء بالموت أو الاختفاء، هنا تتجلى صفاته الحقيقية في عيون مَن رآه، كيف تحولت سلبيته المُطلقة إلى بطولة؟ إنها فقط لحظة تكشف عنه، لنعرف ما نجهله عنه، وربما ما يجهله هو عن نفسه. فالحكاية حكاية «المواطن المصري» الذي استشهد طوال تاريخه، سواء بفعل الأعداء أو حُكامه الأشد عداءً، إلا أن المفارقة تأتي من قدرته على الاستمرار والتعلق بالحياة، والمنتظره عودته بفارغ صبر، فلا يهم هزيمة تنفسها، ونصراً لَمَحَهُ كطيف، وثورة حلم بها وأصبح قربانها، وتمت سرقتها من بين يديه لأنه لم يُصدق أنه فعلها، ليواصِل رحلة استشهاده المتمثل في نظام أسقطه، وأقامه ــ نفسه ــ من جديد، ورغم ذلك فهو قادر على الحياة، وإن أقام الجميع صلوات جنائزهم عليه.

محمد عبد الرحيم

Source: alghad.com

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *