في رواية «البُطء» لميلان كونديرا : سُلطة امتلاك الوجود من خلال الذاكرة
[wpcc-script type=”afdca22cad078103f4752fd5-text/javascript”]
القاهرة ـ «القدس العربي» :«درجة البطء تتناسب كمياً ومباشرة مع قوة الذاكرة، ودرجة السرعة تتناسب كمياً ومباشرة مع قوة النسيان» (من قوانين الرياضيات الوجودية/البطء ص 26). ربما يكون هذا القانون الذي استنتجه كونديرا، هو الذي يوضح دلالة عنوان الرواية، والمدخل إليها. وهذا الاسم (البطء) يدل على الحنين إلى زمن لن يعود مرّة أخرى، زمن الفهم والحِس والذاكرة/السعادة، زمن القرن الثامن عشر. وفي ما يُشبه المناجاة يتحدث الكاتب إلى فارس ذلك الزمن في نهاية الرواية. «لا غد، لا جمهور … أرجوك يا صديقي كن سعيداً! لديّ إحساس غامض أن أملنا الوحيد معلق على قدرتك ان تكون سعيداً» (الرواية ص 86).
«البطء» هي الرواية السابعة في مسيرة الروائي التشيكي (ميلان كونديرا 1929)، وهي الأولى التي كتبها كونديرا بالفرنسية مباشرة، وتوالت أعماله بعد ذلك من خلال هذه اللغة، تاركاً لغته الأم اختياراً كما اختار باريس مكاناً يقيم فيه. وبين فروسية القرن الثامن عشر والسخرية من علاقات الحب في القرن العشرين يعقد كونديرا مقارناته ومفارقاته التي لا تنتهي.
التكثيف السردي
تتم حالات تكثيف السرد من خلال حذف آليات البناء الروائي الكلاسيكي، كوصف الشخصيات الدقيق/الفيزيقي، أو التعرض للخلفية الاجتماعية والمبررات السلوكية والنفسية، وذلك رغم تعدد شخصيات الرواية وتباينها، وهم، المؤلف، وزوجته، وعالم الحشرات التشيكي، وفانسنت، وجولي، وبيرك، وبيروديكس، وصديقة بيرك، وبونتيفال، وفارس القرن الـ 18، والكونتيسة. فوصف الشخصيات هنا يعد علامة على سلوكها وتكوينها النفسي، بل ودورها في الحدث. فالشخصية يتم اختصار وجودها من خلال (علامة) ــ هذا في حال شخصيات السرعة-، أما عالم (البطء) عالم الفارس والكونتيسة، فيستدعي وصفاً يليق بعصرهما. مع ملاحظة ثبات العنصر المكاني، فقصر الكونتيسة في القرن الـ 18، تحول إلى فندق سياحي في القرن العشرين.
دُمى العصر الحالي
ومن خلال اللعب بالشخصية العلامة هذه، تبدو مدى سخرية كونديرا، وقد تحوّل الجميع إلى دُمى .. فـ (عالم الحشرات التشيكي) يتم اختصاره في بناء جسدي قوي، وهذا لا يُعد وصفاً خارجياً، بقدر ما هو حالة دالة على وضعه. فتكوينه الجسماني هذا الذي يتباهى به، بعد سخرية الجميع منه، قد شكّلته السُلطة بطريق غير مباشر، بأن فصلته من عمله كعالم للحشرات، فاتجه إلى أعمال البناء! ويأتي (فانسنت) وهو ليس إلا صوت رفيع وحاد، لا يستطيع جذب الأسماع إليه، على العكس من (بونتيفال) صاحب الصوت الجميل القوي، المؤثر في مُستمعيه، فيصل بهم إلى تصديقه رغم علمهم بكذبه. وأخيراً (جولي) الفتاة غير المرئية من الجميع.
التضاد السردي
هنا يتم وضع عدة أشكال سردية قد تبدو للوهلة الأولى مُنفصلة، لكنها من خلال «الثيمة» فقط يتضح ارتباطها العميق. فهناك حكاية زيارة المؤلف وزوجته إلى الفندق، كذلك حضور باقي شخصيات العصر الحالي إلى الفندق نفسه لحضور مؤتمر علمي للحشرات في الفندق نفسه. وعلى الجانب الآخر يتم استحضار فارس وكونتيسة القرن الـ 18، فيتحوّل الفندق إلى قصر اللذة في ذلك الزمن، والمُتمثلة في القدرة على الاحتفاظ بالذكريات. وفي المقابل نجد مقالاً حول رأي اليسار في العُري، المناقشة حول علاقة الإعلام وسلوك البشر ــ السُلطة الجديدة التي التفت إليها كونديرا وكررها في رواياته اللاحقة ــ فتتجسد المأساة في عصر السرعة هذا، فالخبر لا يظل خبراً طوال الوقت/محو الذاكرة، بل يصبح حدثاً تافهاً يتم الإلقاء به في لا مبالاة إلى مزبلة التاريخ.
البوليفونية
والبوليفونية المقصودة عند كونديرا تتمثل في شعرية الرواية، أكثر منها كتقنية، وتنتج من خلال (الثيمة) التي هي أساس السرد، وليست وحدة الموضوع كما كان الأمر في الرواية الكلاسيكية. وبالتالي يختلف مفهوم البوليفونية هنا عن مفهوم «باختين» الذي يراها متحققة في تعدد الأصوات داخل السرد الروائي، متوصلاً إلى أن هذه الأصوات تمثل صراعاً في ما بينها، فكل صوت يحمل أيديولوجيته الخاصة، فالرواية هي ساحة هذه الصراعات مُجتمعة. ووفق مفهوم باختين من خلال الرواية التقليدية يختفي الكاتب ويترك للشخصيات حريتها الكاملة في التعبير عن مواقفها ووجهة نظرها، وهذا ما يختلف عن السرد الحديث، حيث الحضور الطاغي للمؤلف، سواء كان مُعلقاً أو مُفسراً للأحداث، وكاشفاً لنوايا ودوافع شخصياته. والمفارقة أنه رغم عدم ظهوره ولعبة التخفي وراء الشخصيات لا يمكن إخفاء كونه عليماً بأفعالها، أما الراوي الحاضر والقابض على تفاصيل شخصياته فيلعب اللعبة بالعكس، ويبدو أنه يكتشف معها عوالمها ومواقفها، تصيبه المفاجأة والدهشة، أو الخيبة وسوء الظن! ومن خلال ما يمكن تسميته بالكولاج السردي، حيث السيرة الشخصية، بجانب المقال، والتحليل الفلسفي والتاريخي تصبح الثيمة هي الأساس إذن، وتتمثل في تساؤل وجودي، لا يتم إلا عبر فحص مدلول كلمات خاصة، وهي هنا «البطء»، هذه الكلمة التي تتحول إلى مقولة وجودية من خلال الرواية. هذه الثيمة التي تتحدد من خلالها طبيعة الشخصيات، وتجعلها تتواصل عبر أفعالها .. سرعة فانسنت وجولي عند حمام السباحة، يقابلها بطء مفردات علاقة الفارس والكونتيسة، هذه السرعة جعلت فانسنت لا يستطيع إدراك أي شيء حوله، ولا حتى ما كان ينتوي رؤيته لدى جولي. بخلاف حالة البطء، التي تجعل الفارس يحيا على ما امتلكه من ذكريات، بل ويخلقها داخله .. «يركب فانسنت دراجة بخارية، توازي في سرعتها رغبته في نسيان الليلة المنقضية، أما الفارس فيخطو خطوات بطيئة، مُشتاقاً إلى الرحلة البطيئة، المليئة بالذكريات، التي تمكنه من المحافظة على ذاكرة ممتعة». (راجع كونديرا بين بلزاك ودينون، ص 27).
ومن خلال هذه الثيمة يناقش كونديرا ممكنات وجودية مثل المجد وفقدان الشخصية، ويستمر في عقد المقارنات .. بين الملك التشيكي في القرن الرابع عشر، الذي كان يتنكر ويتفقد شعبه في حرية، وهو ما يحقق له مجداً وجودياً، على النقيض من الأمير تشارلز، المُراقب دائماً من قِبل وسائل الإعلام، وقد فقد شخصيته تحت وطأة سلطتها. هذه العلاقة تتكرر كلازمة موسيقية ــ إن جاز التعبير ــ من خلال النغمة الأكبر المتمثلة في العلاقة بين فانسنت وفارس القرن الثامن عشر.
حتى على مستوى الشكل السردي، يؤكد كونديرا مسألة المتحقق وغير المتحقق، فالمؤلف تحتل وجهة نظره ناصية السرد، فيحرك فانسنت كدمية، وهو الذي لا يستطيع معرفة نفسه وسط هذا العالم، بخلاف الفارس/المتحقق، حيث يختفي المؤلف، ويكتفي بالتعليق المُتعاطف معه، وبالتالي يصبح الفارس حراً ويسرد حكايته بضمير الـ (أنا).
«حين يجري كل شيء بمثل هذه السرعة،
ليس بوسع أي أحد أن يكون واثقاً بأي شيء ..
وحتى بنفسه ذاتها». «البطء».
محمد عبد الرحيم