في كتاب «كان هذا سهواً» لأنسي الحاج: عبث بمصادر الضوء وزوايا الظلال خارج الأُطر
[wpcc-script type=”3b7b4bae0a13562a5caa8f7a-text/javascript”]
■ الأثرُ الذي نحته أنسي الحاج في الشعر المكتوب باللغة العربية أثرٌ لا يُنسى، بصمة شخصية معقدة التركيب سعت لأن تستأثر بالعالم حيّاً في لغة صقيلة وموجزة؛ أثر ناجزٌ لا كما يفعل الحواة باللغة، ربما كما يفعل الحيُّ باللَّغة ويخلقها ساحرةً كما يشتهي الحياةَ ويحرسُ كل تفاصيلِ تخلقّها بين يديه، ربما كانت تلك لعبته المفضلة: خلق الصّورة بلا إطار وتأملها في مرآةٍ تسيلُ منها الصّورُ مسكوبةً على المعنى، وهو يتخلّقُ معزولاً في مشيمةٍ لا تُرى قبل أن تتشيّأ كائناً من لَحْمِ ودَمِ الموسيقى والفلسفة، بلا نسبٍ سوى الاكتناز بحياة جمالية محضة وفارهة بالمعاناة والمعرفة، بحياة خبيرة بأحابيل الحياة تُسْفِرُ ساخرةً من حقيقة الموت الفيزيائي للشاعر وتنتصر لخلود الكلمة، خلود الأثر المنحوت في الذائقة النادرة، أثر الشاعر ليس في الكتاب أثره في وعي القارئ المُستحق الذي يتمثل النصّ في نظرته الشخصية للكون والعالم، في تمثله حياة الصورة المنحوتة بكدّ أصيل والعبور بها سهوا إلى تفاصيل حياته اليومية، هل حياته الباطنية أجدرُ بكنز فيوض النص والزهوِّ بها في الشوارع وغزل الحبيبات ومناكفة الأيديولوجيِّ في البشر والكائنات ومنازعة الأسلاف في كأس السُم الفلسفيّ العريق نزقاً نحو طلب الحقيقة وأضدادها، في صورة إبداعية لم تخطر من قبل لخالق يعبث بمصادر الضوء وزوايا الظلال، خارج أي إطار.
كتاب من ذهب:
ندى الحاج تبتدر الكتاب تحت عنوان «كتاب من ذهب» بخطاب جيّاش العاطفة لأنسي الحاج، تكرّسُ له ضمير المخاطب، وهي رسالة رسولية من واقع أنها تتحمّل مسؤولية التبليغ بكتابه الأخير؛ الكتاب الذي بين أيدينا الآن، كان مخطوطا مبعثرا قبل أن يئنَّ كاهلُ الرسولة بتحريره، لم يحرص الكاتب نفسه في أيامه الأخيرة على أن تضمه دفتا كتاب، ربما تكاسل عامدا – كما توحي لنا كاتبة نص المقدمة، في نصها الموجز والمكثف: «كم تهرَّبتَ من إنجاز هذا الكتاب بحجّة الوقت والظروف»؛ لا نغفل عن كونها شاعرة أيضا- ويحق لنا قبل أن نقرأ الكتاب أن نقلق قليلا، حول كتاب يتضمن نصوصا غير منشورة لكاتب عُرف بالدِّقة في تأليف ذاته في النصوص، ومن ثم توليفها في كتبٍ قليلة حملت بصمة فكره وروحه؛ أول سؤال يتبادر للذهن بالطبع: من هو صاحب السطوة والجرأة لإصدار كتاب جديد لكاتب مثل أنسي الحاج من أثر مخطوطاته التي لم تنشر تحت إشرافه وتدقيقه الشخصي في كتاب، إثر رحيله الفيزيائي الماثل منذ عامين، من هو الذي يجرؤ على تبويبه واجتراح مفاتن مداخله ومفاصلها الدقيقة في جسم إبداعي ينتمي لمبـــدعه الخالق، ويمنحه اسمه بالضرورة؟
تكتب ندى الحاج، في تصديرها للكتاب: «حافظت على تقسيم فصول الكتاب تحت العناوين التي اختارها بنفسه. أما عنوان الكتاب فاستلهمته من مضمونه ومن كلماته هو، وحياته التي هي «حبّات من الملح وبضع نقاط من البخار»، وندى الحاج في تصديرها للكتاب، تبدأ نصها موجَّها لأنسي الحاج شخصيا في لغة جيّاشة العاطفة قبل أن توجّه خطابها للقارئ ومن ثم تعود موجَّهة خطابها له، ليس بوصفها شاعرة وكاتبة وليس بوصفه المعروف كشاعر وكاتب، بل بصيغة أكثر حميمية، حيث تبدأ عبارتها الخاتمة بـ»أبي غطّيتني بعباءتك لتحميني من صقيع غيابك، منحتني سقفاً يقيني شرّ التشرّد».
غيوم، يا غيوم:
القصيدة الوحيدة ضمن متن الكتاب هي قصيدة «غيوم»، الكتاب الذي بني على ستة فصول هي: ميتافيزك ودين- ذات- سلوك- أدب- فن- حب؛ القصيدة التي أشار لها في خاتمة الكتاب الشاعر والناقد اللبناني عبدو وازن في كلمته المعنونة بـ»خواتم الوداع»، كتب وازن: «هذه آخر ما كتب أنسي الحاج من «خواتم» كتبها ووضعها على حدة. لم يشأ أن يدرجها في جريرة الخواتم التي دأب على كتابتها في صحيفة «الأخبار» اللبنانية في الأعوام الأخيرة. وبعضها أصلاً بدا كأنه كتبه في لحظات الانسحاب التي دفعه إليها المرض بعد ما ازداد تفاقماً، وهي كانت لحظات مواجهة سافرة لما خشيه شاعرنا طوال حياته: الموت وبالسرطان. وهو كان خبر هذا المرض الـشــرس مرتين، مرَّة مع أمّه باكراً ومرَّة مع زوجته ليلى التي كتب لها وعنها أجمل نصوصه، وشاء القدر أن تنشر بعد موته بين هذه الخواتم».
القصيدة «غيوم» حين تقرأها تغرق وتستغرق في عوالم صاحب «لن» و«الرأس المقطوع» و«ماضي الأيام الآتية» و«ماذا صنعت بالذهب ماذا فعلت بالوردة» و«الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع» و«الوليمة»، الأجدر بك أن تغرق وتستغرق في القصيدة، من دون الإصغاء لملاحظات الناقد وازن، أو أي ناقد حين يكتب عن شعر أنسي الحاج أو عن تنظيره حول الشعر وكتابته الأخرى التي لم تُصنف شعراً في سلسلته الشهيرة (كلمات)- من ثلاثة أجزاء، أو كتابيه (خواتم)، أجدر بك أن تقرأ القصيدة لحالها.
متن الكتاب «كان هذا سهواً» في فصوله جميعاً لا تلحظُ فيه، في بناء الجُمْلة، بناء النص مُجْمَلاً، فرقاً بيّناً بين الكتابة الشعرية أو الكتابة النثرية، وهذا دأبه مبدعاً في نحته الدقيق، ربما يشغلك قليلاً التبويب المباشر للفصول وقطعيتها الحادة، لكنك حين تغرق وتستغرق في النصوص ذاتها، ستنسى أسماء الفصول، ربما تكتفي فقط بسحر العبارة؛ حين يكتب أنسي الحاج يكتبُ ولا مجال للنقاد ولا مجال للتصنيف:
«لا أعرف إن كنتُ شاعراً. أحيانا أشكّ، وأنفي عن نفسي الصفة. الشعراء مغنّون مجبولون بالأثير، وأنا طافح بالشكوك والأشباح المخيفة للأطفال. الشعراء مبتهجون أو كئيبون، وفي الحالين نايات أو كمنجات. إما على حبور مسطول وإمّا في انحدارات. الشعراء عصافير، وأنا قليلاً عصفور بين الأرنب والقنفذ. الشعراء لا يحقدون، لا يُحملقون في مرايا الهول، لا يهندسون أنظمة للتناقض. ماذا بقي؟ الكتابة. الشعراء يكتبون ما يُحفظ، موزوناً مقفى، بسيطاً متدفقّاً. وأنا أكتب نثراً بلا وزن ولا قافية، قليل البساطة أو عديمها، قليل العفويّة أو عديمها، أنا نفسي لا أحبّ أن أحفظ منه. لا أعرف ما أنا. ولم أتوقّف عن المرور «إلى جانب» حياتي».
الصادق الرضي