في لوحات الجزائرية فايزة مغني:هشاشة النساء تختبئ خلف أعين بلورية

عالمٌ نسائي خاصٌ جداً، مثقّلٌ بثقافات متنوّعة حمّلته إياها الفنانة الجزائرية فايزة مغني، التي تقوم بمزج كلّ الثقافات التي اختزنتْها من بلادها الجزائر بحكم الحضارات التي تناوبت على تلك البلاد وأرضها. فقد مرّ من هناك - كما تذكر مغني - كل من اليهود، والعثمانيين، والإسبان، والعرب، والأندلسيين، والفرنسيين... وقد تركوا آثاراً مهمة في النواحي المعمارية والفنية الموسيقية والأدبية، مما جعل الفنانة تتأثر بالشعر العربي وزخارفه وبالحضارة الإسلامية التي قادتها لمنمنمات الفرس إضافة لأشعارهم. هذه الحضارات أثّرت على أسلوب الحياة أيضاً، لذا نجد في كلّ عملٍ من أعمالها نكهةً مختلفة، النسوة متشابهاتٌ للوهلة الأولى، لكنّ هناك طعمٌ مختلف يمنعك من الخلط بين الأعمال.

في لوحات الجزائرية فايزة مغني:هشاشة النساء تختبئ خلف أعين بلورية

[wpcc-script type=”bcca722f01f207fe87879d72-text/javascript”]

عالمٌ نسائي خاصٌ جداً، مثقّلٌ بثقافات متنوّعة حمّلته إياها الفنانة الجزائرية فايزة مغني، التي تقوم بمزج كلّ الثقافات التي اختزنتْها من بلادها الجزائر بحكم الحضارات التي تناوبت على تلك البلاد وأرضها. فقد مرّ من هناك – كما تذكر مغني – كل من اليهود، والعثمانيين، والإسبان، والعرب، والأندلسيين، والفرنسيين… وقد تركوا آثاراً مهمة في النواحي المعمارية والفنية الموسيقية والأدبية، مما جعل الفنانة تتأثر بالشعر العربي وزخارفه وبالحضارة الإسلامية التي قادتها لمنمنمات الفرس إضافة لأشعارهم. هذه الحضارات أثّرت على أسلوب الحياة أيضاً، لذا نجد في كلّ عملٍ من أعمالها نكهةً مختلفة، النسوة متشابهاتٌ للوهلة الأولى، لكنّ هناك طعمٌ مختلف يمنعك من الخلط بين الأعمال.
ولدت فايزة مغني في مدينة وهران عام 1964 لأبٍ رسّام زرع حب الفن في روحها منذ صغرها ولأم تعمل مدرّسة للغة الفرنسية مما جعلها على احتكاك مع عالم الأدب وخاصة الفرنسي، والذي تعمّقت علاقتها به بعد أن سكنت باريس مع عائلتها. باريس صاحبة الفضل علينا بمشاهدة أعمال مغني فهي تقول بأنّها لو لم تسكن باريس ما كانت لتمتهن الفن أبداً. اشتغلت بين عام 1982 و1989 في شركة خاصة بالعائلة، ثم عرضت أعمالها على دار خياطة بباريس عام 1990وتفرغت للرسم بعدها. حلم طفولة فايزة مغني هو أن تصبح مصممة أزياء مشهورة، ربما لم يتحقق هذا الحلم بشكله الحرفيّ لكنه قد تسلّل لعملها الجديد وسكن عالمها، فالأزياء هي البصمة الواضحة للوحات مغني، من خلالها تحكي حكايات كثيرة قد تكون باذخة وقد تكون رثّة، فللباس دلالاته فهو يعبّر عن التقشف أحياناً، أو الإهمال واللامبالاة أحياناً أخرى، وهو مرآة للسلوك، نجد ثياباً باذخة وأخرى مقطّعة، مع التأكيد على المبالغة لإعطاء تكثيف للفكرة والفضح عن أمر ما يختبئ بين الطبقات اللونية.
  لكلّ زيّ حكاية تنتمي لزمن معين وأحياناً لمكان بعيد، مرةً يكون الزيُّ طربوشاً مع ريشة ضخمة في اليد وكأنك تعود لزمن العثمانيين وتمسح علامات الأنوثة الظاهرة من هذه المرأة المتنكّرة، ومرةً يكون بثياب أنيقة راقية جداً وكأن هذه المرأة ذاهبةٌ لحضور حفلة في الأوبرا الفرنسية، حتى أن رائحة العطور تتسلّل لأنوفنا. بعض الملابس تحمل زخارف مميزة لكل منها معنى خاص، استلهمتها مغني من المنمنمات الفارسية كما ذكرنا، حيث أن النسوة فيها كن يرتدين زياً خاصاً بزخارف كثيرة وتسريحات شعر مميزة مماثلة لنسوة المنمنمات. وكذلك نجد الزيّ القبلي الذي اشتهرت به نساء القبائل في الجزائر، لا يُخفي نفسه فنقوشه وألوانه الكثيرة تشيان بانتمائه، وكأن المرأة التي ترتديه بستانٌ كامل محمّل بالثمار. وطبعاً لا يكتمل هذا الزيّ بلا حليّ فنجد الأقراط الكبيرة، وكذلك القلادات الضخمة، وأحياناً الحلقات المعدنية العريضة التي تلتف حول الرقبة كما لدى نساء بورما أو نساء افريقيا أيضاً. غطاء الرأس هو الغالب في الأعمال إما أن يكون وشاحاً، أو قبعةً أو تسريحةً للشعر يجعله أشبه بتكوينٍ يعتلي صهوة الرأس. قد تغيب الثياب بشكلٍ جزئي أو كلّي (يُغطى باليدين)، ليكون التعري هو الزي وتتحوّل المرأة إلى حورية بصدر عار وقد يندمج النهدان أحياناً فتصبح المرأة حاملةً لدوّامة تستطيع ابتلاع ما تريده. في هذا العمل تذكرتُ لوحة ليديا والبجعة لليوناردو دافنشي وخصوصاً أن لوحة مغني هذه حملتْ بطة أيضاً، وكذلك بسبب الخطوط المنحنية بمرونة ورشاقة شديدتين يعكسان تأثر الفنانة مغني بفن الخط العربي، فنجد انسيابية الراء تنزلق على خصر المرأة وتكويرة بطن العين تملأ نهدها. البطة ليست الحيوان الوحيد الذي استدعته مغني لأعمالها، فنجد أحواض السمك الملون وهو ينظر إلينا بطرف عينه، القطة الرمادية تعلّق قلباً أبيض قلادةً في رقبتها، وتقف بمواجهتنا بثقة وذيلها المعقوف يشبه إشارة استفهام لم تحصل على جوابٍ بعد. وقد نتأمل بروفيلها (الوجه بشكل جانبي) وكأنها منزعجة لسبب ما، لتبتعد في لوحة أخرى وتكون ثانوية الحضور، فيعود التركيز لوجه المرأة الحاضرة الوحيدة في عالم مغني الخالي من الرجال، غالباً لوحاتها تصنف تحت عنوان بورتريه.
 حين سئلت مغني عمّا يلفتها في المرأة قالت ما حُفر في وجهها من علامات وتجاعيد، تحاول أن ترسم هشاشتهنّ، الهشاشة المختبئة تحت العيون الزجاجية، فالنظرة تحمل من الانكسار ما لا تقوى أنت على حمله، وإن كانت النظرة مباشرةً في عينيك أم لا (حيث تكون حدقة العين غالباً في زاوية العين، تتجسس على أحد أو تبحث عن أحد)، إلا أنك لن تستطيع أن تهرب من سهم الحزن الذي سترميك به بعد أن يملأ جمود الملامح وعيك ويكبّلك. لتلك العينين حاجبان رفيعان وفمٌ صغير مع أنف رفيع، وكأنّ الملامح لا تريد أن تشتت انتباهنا عن العينين، عن مرآة الروح، لنبصر من خلال هذين الشباكين ما يعتمر داخل النسوة من حروب وهزائم مستمرة.
الألوان التي تستخدمها مغني ترابية في أغلبها تمنحك سكينة التمدد على الأرض في ليلةٍ مقمرة لتراقب اللوحات بخيالٍ صافٍ، الألوان منسجمة مع هدوء الكائنات الموجودة في اللوحة والتي مهما كثرت تحافظ على صمتها ولا تثير صخباً بصرياً يشوّه الرّاحة التي تسيّطر على المتلقي وهو يتأمّل العمل.
تبدو اللوحات وكأنها من عصورٍ تقارب عصر النهضة، فهي مشغولة بتقنية تمنحها هالةً من الهيبة التي تطغى على أعمال القرون السابقة. ومما يزيد قرب لوحات مغني من هذه الأعمال كون خلفيات لوحاتها في أغلبها لونٌ داكنٌ ممتد بتدرجات معينة تاركةً المرأة وقد أخذت وضعيةً معينة تعطي المتلقي دلالةً مباشرة وفق علوم الجسد. فرفع اليد لتغطية جزء من الجسد يعني عدم الشعور بالأمان، وكذلك انكسار الرأس والنظر للأسفل يحمل خوفاً يصل للمتلقي فوراً، وكذلك هناك دلالات مباشرة تحملها أدواتٌ متصلة بالمرأة كالمفتاح في يديها وكأنها ستنعتق من نير الكبت قريباً، الغصن في يديها يشعرنا بأنها تملك الحياة وسرّها والفراشة فوق كفّها تقسم باكتمال الجمال. أحياناً تستعين مغني ببعض التكوينات المتراكبة لخلفيات لوحاتها لتمنح عملها مسحةً سريالية، وقد تمتلئ الخلفية أو جزءٌ منها بالورود الصغيرة المتداخلة حتى نحسّ أن الفنان النمساوي غوستاف كليمت كان سيبتسم لهذه اللوحة برضى شديد؛ كما نبتسم نحن الآن بعد أن أشبعنا بلوحات الجزائرية فايزة مغني. فلا شيء سيعكّر صفو هذا الفن.
   

 

في لوحات الجزائرية فايزة مغني:هشاشة النساء تختبئ خلف أعين بلورية

بسمة شيخو

Source: alghad.com

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *