في مؤتمر لمناقشة سياساتها الثقافية في جامعة القاهرة: الترجمة كساحة للصراع… عملية إنتاج النصوص ونتائج تلقيها
[wpcc-script type=”7cafc8ea0bef9887d6824174-text/javascript”]
القاهرة ـ «القدس العربي»:لم يغب فعل الترجمة عن كونه ساحة يتجلى فيها صراع القوى السياسية المختلفة، ومحاولات تأويل النص حسب هوى هذه القوى، على قدر ما يسمح به، أو حسب ما يود المترجم أن يُثبته من إضفاء صفة السبق التاريخي والحضاري على ثقافته، التي ينقل إليها النصوص الأخرى، أو أن تنطق هذه النصوص وتتبنى أفكاره في موقف أو قضية ما.
وتعد مسألة الترجمة من المسائل الشائكة، خاصة تلك المُترجمات إلى العربية، سواء تمثلت في أعمال أدبية وفكرية، أو نصوص علمية، وصولاً إلى الصحف وأخبارها. فلا توجد ترجمة في فراغ، ولا يوجد نص لم تحكمه فكرة كيفية ظهور ترجمته في مجتمع أو لحظة ما. ففعل الترجمة ــ خاصة إلى العربية ــ يدور حول رد الفعل، كحالة عامة تجاه قوة سياسية وفكرية لطالما شعر نحوها العرب بالعجز والضآلة، كمحاولة اكتشاف الفضل العربي الغابر في ثقافة الشعوب المتقدمة.
من ناحية أخرى نجد الغرب حاول بدوره وضع الثقافة الإسلامية ونصوصها المقدسة في مكانة مغلوطة إلى حدٍ ما، منذ بداية الترجمات إلى اللغات الأجنبية، وبداية التفاعل معها، وهو أمر يؤكده السلوك العربي في الوقت الراهن. فهناك سياسات تحكم رؤية المترجم إلى العمل الذي يُقدمه، فالنص الأصلي يُعاد إنتاجه وفق هذه الرؤية وموقفها الفكري، سواء كان متوافقا مع مؤلف النص الأصلي أو ضده. وحول عدة محاور دارت في فلك هذه الأفكار عُقد «مؤتمر السياسات الثقافية للترجمة» من خلال قسم اللغة الإنكليزية في كلية الآداب جامعة القاهرة، وبالتعاون مع مركز دراسات الترجمة والدراسات الثقافية البينية في جامعة مانشستر، والأكاديمية البريطانية. قدّم المؤتمر ما يُقارب 34 بحثاً، إضافة إلى حلقتين نقاشيتين، هما.. ميراث الترجمة، ودراسات الترجمة وأدب الرحلات. وسنستعرض بعضا من الأفكار والأوراق المهمة التي تمت مناقشتها خلال أيام المؤتمر.
كوميديا دانتي
تحت عنوان «السياسات الثقافية لترجمة دانتي إلى العربية»، جاءت الورقة البحثية المُقدمة من الباحث إدواردو كريسافوللي، مدير المركز الثقافي الإيطالي في بيروت، وترجمتها لميس النقاش، حيث يتعرض خلالها إلى الترجمة العربية لكوميديا دانتي الإلهية، التي قام بها حسن عثمان ما بين 1959، 1969. وهي فترة ما بعد الاستعمار الإنكليزي لمصر. ويُشير الباحث إلى أن المُترجم قام بحذف القصيد الثامن والعشرين من الجحيم، حيث يتناول دانتي النبي محمد. والأمر أبعد من الرقابة والتقاليد الثقافية للترجمة، فعثمان» يعيد كتابة دانتي بحساسية إسلامية من أجل مواجهة ممارسات النقد الأدبي الغربي المهيمنة. وقد تبلور مشروعه من خلال بلد قيادي في العالم العربي هو مصر، وأثناء نضال هذا البلد من أجل كسب الاعتراف الثقافي من الغرب في فترة ما بعد الاستعمار. ووضع دانتي في ثوب عربي مسلم هو بالأساس فعل من الأفعال السياسية الثقافية، التي تتحدى الصيغ الجامدة التي تكررها المنظومة الغربية. فنقاد الأدب الأوروبيون ودارسوه لا يكتفون بتحديد أسماء الكتّاب الذين يستحقون التمجيد، ويضعون دانتي بالطبع ضمنهم، ولكنهم أيضاً يدعمون المداخل والأطر التي تتلاءم مع النظرة الأوروبية للعالم. وإن كان هناك قبول واسع الآن لمسألة تأثر دانتي بالمصادر الإسلامية فإن هذا الاتجاه في البحث كان مُتجاهَلاً أو كان يعتبر هامشياً بالنسبة للدراسات حول دانتي حتى منتصف القرن العشرين.
عزلة ماركيز
بحث آخر يؤكد هذه النظرة، تقدم به الباحث والمُترجم الإيراني علي أكبر برموزة، وانتهج فيه تحليلا إيديولوجيا لترجمة بعض المفردات ذات الدلالة الثقافية عموماً، في رواية غابرييل غارثيا ماركيز «مئة عام من العزلة»، وكيف أن المناخ السياسي وبالتبعية الاجتماعي كان مؤثراً قوياً في عملية إنتاج النص المُترجم. فالباحث استند إلى ترجمتين للرواية، أولهما قبل الثورة الإسلامية في إيران، والثاني في ظلها، وتوصل إلى أن التغيير الأيديولوجي كان سبباً في إحلال العديد من الفردات وكذلك الرؤية عند ترجمة النص، وبالتالي عملية التلقي نفسها من خلال اللغة التي ينتقل من خلالها النص، حيث يتبنَى القارئ رؤية مختلفة ومخالفة في كثير من الأحيان لرؤية مؤلف النص الأصلي.
والحديث هنا ينتقل إلى ترجمة الحدث الآني، وبالتالي كيفية توظيفه وتبعية استقباله، وما قد يترتب عليه ذلك. بداية تشير الباحثة حنان شرف الدين في بحث عنوانه «دور الترجمة في سرد أحداث المُعارضة الشعبية» إلى كيفية تناول كل من مواقع جريدة «الأهرام» الـ«سي أن أن»، والـ «بي بي سي» وقائع ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011، بالنسبة للعرب وغيرهم. فإمكانية عرض الحدث لحظة وقوعه، ومن خلال جهات أو وجهات نظر مختلفة، كالتي تستند إلى الرأي الحكومي وقتها، أو التي تستند إلى الرأي الثوري المُعارض، هو ما أوجد حالة من الثقة لدى الثوار بأن العالم يرى ما يفعلون، وبالتالي تأثير ذلك على الآخرين، وكيفية ترجمة الأخبار والتلاعب بها لصالح فئة في مواجهة أخرى.
ولكن.. فكرة التفاعل الإخباري هذه عبر شبكات الفضائيات والمواقع الإلكترونية، وما شابه لا يمكن الوثوق في مدى حياديتها أو جديتها. فهناك العديد من الحركات الثورية لم يتطرق إليها الإعلام، وكأن شيئاً لم يحدث، ولنا في البحرين وغيرها خير مثال. الأمر هنا يتعلق بالإعلام والمعنى الأخلاقي للمهنة.
وهو ما تناقشه الباحثة منى علاء الدين، في ورقتها البحثية «هل كلنا شارلي؟»، حيث تقوم بدراسة نقدية لأربعة عناوين صدرت عن صحف عربية وغربية، بعد ساعات من واقعة إطلاق النار على مقر صحيفة «شارلي إيبدو» في 7 يناير 2015 في باريس. فالحدث تم تناوله من وجهات نظر مختلفة، وترجمات مُتباينة تتبنى مواقف ورؤى مُسبقة. من حيث إعادة توصيف الإرهاب، وكيف يكون الضحية والجاني في هذه القضية المُلتبَسة، التي يتصدّر تعريفها الأقوى سياسياً، وبالتالي يفرض هيمنته ورؤيته على معظم المتلقين. وتستند الباحثة إلى واقعة تفجير مركز التجارة العالمي عام 2001، حيث بدأ نسج خطاب عنصري جديد مشوب باستعارات تشبه تلك المستخدمة في مناهضة الإرهاب، أهمها.. الحرب على الإرهاب، هذا الخطاب الذي أفرز المزيد من الإرهاب والقليل من إمكانية التعايش. وتجلت إحدى هذه الصور العنصرية في أن أصبحت كراهية الإسلام ونشر الصور المسيئة نهجا سار عليه العنصريون، ما جعله واحدة من الأدوات المُسخَرة لنصرة التعصب الديني والسياسي.
الصورة السينمائية والترجمة
هذه بعض من الأبحاث المهمة التي تناولها مؤتمر السياسات الثقافية للترجمة، وإن كانت هناك العديد من الأبحاث التي تُشير عناوين موضوعاتها إلى جدّيتها، كالبحث الذي قدمه عمرو الزواوي، مدرس اللغويات والترجمة في قسم اللغة الإنكليزية، كلية التربية جامعة الإسكندرية، والمعنون بـ «الترجمة المرئية للتعبيرات المصرية المسيئة: حالة فيلم باب الحديد»، حيث يتوقف الباحث أمام المصطلحات البديلة وحالة التأدب في الترجمة المرئية، بما يعكس إحالات دائمة لطبيعة وسلوك المجتمع مُتلقي الترجمة، وهي ليست الطبيعة الحقيقية بالطبع، ولكن كما يود أن يبدو عليه من وجهة نظر النظام والسلطة الاجتماعية، خاصة أننا في مصر نقوم بترجمة الأعمال السينمائية، حتى يتسنى عرضها في الخارج، وبالتالي نشكّل نحن هذه الصورة أو نزيفها بالمعنى الأدق. وفي السياق نفسه يأتي بحث بعنوان «المثلية بين الترجمة النصية والصياغة السينمائية في كل من «زقاق المدق» و»عمارة يعقوبيان»، للباحثة رانيا سالم، المدرسة المساعدة في الجامعة البريطانية في مصر. التي تتناول كيفية نقل أجواء وطبيعة العلاقات المثلية في المجتمع المصري من خلال الترجمة إلى الإنكليزية، أو من خلال تحويل العمل الأدبي إلى فيلم سينمائي، خاصة أن «زقاق المدق» تم تقديم نسخة مكسيكية منه بطولة سلمى حايك عام 1995، تحت اسم «حارة المعجزات»، الذي أظهر هذه العلاقة صراحة كما جاءت في الرواية، بخلاف الفيلم الذي قدمته السينما المصرية عام 1963، الذي اكتفى بالإشارة إليها على استحياء.
محمد عبد الرحيم