قراءة في تجارب تشكيلية مصرية

القاهرةـ «القدس العربي»: من خلال عدة معارض تشكيلية مقامة حالياً في القاهرة، ورغم تباين رؤى وأساليب أصحابها، إلا أن اللافت هو مدى الاحتفاء بالعادي والعرضي في ما يخص شخوص عادية نلمحها في الطريق أو نطالعها في العديد من الأماكن في مدينة مثل القاهرة. الحالة نفسها نجدها في أعمال أخرى اتخذت من الطبيعة أساسها الفني والجمالي، كمحاولة لتجسيدها وتشخيصها، سواء في صورتها المباشرة، كانعكاسها على حياة الناس، أو التشخيص الصرف لهذه الطبيعة وتحولاتها، ما بين رحلة الحياة والموت، وكأنها مسيرة أخرى أشمل وأعم للحياة. وسنحاول في إيجاز استعراض هذه التجارب، ربما تعكس بدورها ما يحمله بعض الفنانين من رؤية فكرية وجمالية حاولوا التعبير عنها من خلال أعمالهم.

قراءة في تجارب تشكيلية مصرية

[wpcc-script type=”5098883ff59ee1f1f1af09df-text/javascript”]

القاهرةـ «القدس العربي»: من خلال عدة معارض تشكيلية مقامة حالياً في القاهرة، ورغم تباين رؤى وأساليب أصحابها، إلا أن اللافت هو مدى الاحتفاء بالعادي والعرضي في ما يخص شخوص عادية نلمحها في الطريق أو نطالعها في العديد من الأماكن في مدينة مثل القاهرة. الحالة نفسها نجدها في أعمال أخرى اتخذت من الطبيعة أساسها الفني والجمالي، كمحاولة لتجسيدها وتشخيصها، سواء في صورتها المباشرة، كانعكاسها على حياة الناس، أو التشخيص الصرف لهذه الطبيعة وتحولاتها، ما بين رحلة الحياة والموت، وكأنها مسيرة أخرى أشمل وأعم للحياة. وسنحاول في إيجاز استعراض هذه التجارب، ربما تعكس بدورها ما يحمله بعض الفنانين من رؤية فكرية وجمالية حاولوا التعبير عنها من خلال أعمالهم.

المنسيون

تحت عنوان «ملح الأرض» يأتي معرض الفنان مصطفى البنا، والمقام حالياً في قاعة «اتجاه» في قصر الفنون في دار الأوبرا المصرية. هنا تغيب تفاصيل الشخوص، ملامحها بشكل خاص، فقط سماتها الجسدية، مما يوحي بالبيئة التي تعيش في ظلها والفئة التي تنتمي إليها، إضافة إلى بعض المهن التي نطالع أصحابها في الشارع، كبائعات الأسواق الشعبية من الفلاحات، وبائعي العرقسوس في وقفتهم الشهيرة. حالة عدم وضوح الملامح تعمم وجودهم، دون الاقتصار على شخص بعينه، الأمر أيضاً يخص المجموع، أو حالة الجموع التي يحتفي بها الفنان. من ناحية أخرى جاءت الشخصيات في حالة لونية تكاد تتشابه، اللهم سيطرة لون معين على إحداها دون الأخرى، وهو دال على اشتراك الجميع في تركيبة الألوان هذه، ولو بدرجات متفاوتة. ويُشير البنا من خلال تكوين اللوحات إلى الحال النفسي لهؤلاء، فهم كمن يؤدون أدواراً دون الالتفات إلى إنسانيتهم، المقصود هنا هو المتلقي ومُشاهد العمل الفني، فهؤلاء رغم تواترهم ليل نهار أمامنا، يبدون في أحيان كثيرة مجرد أشياء، بحيث لا ندرك ملامحهم، فماذا نرى في بائعة خضار مثلاً، سوى ما تبيعه أو ما تحمله فوق رأسها، أو شيئا من طبيعة ملابسها المغايرة لملابس أبناء المدن. يدين الفنان نظرة التشيؤ التي نرى بها هؤلاء، وكأنه يلفت النظر أكثر إلى وجودهم الحقيقي، دون الاكتفاء باعتيادنا هذا الوجود. فنحن صانعو العزلة وخالقو المسافات بالأساس.

حكايات الوجوه

أقيم مؤخراً بغاليري «ضي» للفنون، معرض للفنان محمد الناصر بعنوان «المرأة أيقونة الإبداع». وبخلاف تقليدية ومباشرة العنوان، إلا أن الفنان حاول عبر بعض البورتريهات التعبير عن نساء مصريات تمجيداً لدورهن الفاعل في الحياة. لسن من رائدات الجمعيات النسوية أو المناديات بحقوق المرأة المُهدرة، فقط بائعات في الأسواق، يجلسن بجوار بضائعهن. نلمح تمجيداً لما يقمن به، وما يصنعن من صيغة حياتية تليق بهن. اهتم الفنان بتفاصيل الشخصيات، من حيث ملابسهن وأكسسواراتهن البسيطة، كذلك ابتكر من خلال اللون ــ سواء لون الملابس أو لون الخضراوات والفاكهة التي يعرضنها ــ حالة من التماهي بين الشخصية ومحيطها. ومن خلال تعبيرات بسيطة، تكاد تومئ فقط، جاءت الحركة، ففكرة الانتظار أو طبيعة ما يقمن به تخلق حالة أكبر من السكون، لكن ذلك لا يخفي الحركة المستترة والتي يتم الإيحاء بها، سواء من خلال التكوين أو وضعية الجسد، أو علاقة الشخصية بالمكان، حيث تتصدر الشخصية اللوحة دائماً، وفي الخلفية يبدو المكان وتفاصيله، الذي في الوقت نفسه لا يمكن فصل الشخصية عنه بحال. المفارقة اللافتة في المعرض أنه رغم القوة التعبيرية للوحات الفلاحات البائعات في السوق، تبدو البورتريهات الأخرى في غاية البرودة والاصطناع، وهي للكارت بوستال السياحي أقرب، حيث نساء من فئات أخرى يتمثلن ملابس بيئات تختلف عما يعيشنه بالفعل، وكأنهم في رحلة سياحية إلى الصحراء أو الريف، فالأمر إلى رسوم المستشرقين أقرب. هذه المفارقة توضح مدى الافتعال في هذه البورتريهات مقارنة بوجوه الفلاحات وتفاصيل حياتهن التي ظهرت تماماً ولو من خلال لوحة أو كادر ثابت، يحكي ما وراء شخوصه.

البيئة وشخوصها

«سِحر البرلس» هو العنوان الذي اختاره الفنان إبراهيم غزالة، والمقام حالياً في غاليري «بيكاسو». ويستعرض من خلاله طبيعة هذا المكان ومدى تأثيره على حياة شخوصه، فالشخوص هنا أسرى المكان، حيث ينتظم إيقاع حياتهم ومعيشتهم وفق إيقاع الصيد والمراكب والشِباك. «بحيرة البرلس» التي تقع في الشمال المصري، تصوغ حياة ساكنيها. من خلال عيدان متجاورة من البوص، تبدو دوماً في مقدمة اللوحة، نبدأ الدخول إلى هذا العالم، الصيد وحالاته، المراكب المتناثرة وصيادو البحيرة في وحدتهم وعزلتهم، رغم فعل الصيد الذي لا يتوقف. اللوحات أشبه بحالة ذكرى أكثر منها كتجسيد لفعل حي، إضافة إلى وضعيات الأجساد والكتل اللونية التي تشبه جداريات الفن المصري القديم، هناك حالة من المهابة تخلقها محاولة القبض على الذكرى الضائعة ــ يعقد الفنان في مقدمته للمعرض عن حال المقارنة بين بحيرة المنزلة التي عاش بها والتي تغيّرت الآن، وبين بحيرة البرلس التي لا تزال تحمل سمات حياة البحيرات ــ من ناحية أخرى يبدو تكوين اللوحة وكأنه مستويات متدرجة في شكل رأسي ــ تماماً كالجداريات ــ إضافة إلى التشكيل اللوني المنحصر ما بين الأزرق والأصفر وأشباح البوص السوداء. هذه البيئة التي يجسدها الفنان ويخشى في الوقت نفسه ضياعها، اختلقت لنفسها إيقاعها الساكن والهادئ تماماً، بخلاف فعل الصيد، حالة من الهدوء الشديد أقرب إلى التأمل، حتى أن الشخوص هنا تتأمل ما تفعله دون الاكتفاء بتمثيل هذا الفعل.

الطبيعة وتحولاتها

وفي الأخير يأتي الفنان عماد إبراهيم في معرضه المعنون بـ «الجهنمية» والمقام في غاليري «الزمالك» للفن. فمن خلال نباتات الجهنمية يستحضر حال الطبيعة وتحولاتها، ذلك عبر تغيّر الفصول وانعكاسها على شكل وطبيعة ولون هذه النباتات. الحالة التعبيرية ومحاولات الإيحاء بأجواء وحياة هذه النباتات هي ما يسعى إبراهيم إلى تأكيده عبر لوحاته، فما بين اللون الأخضر وقوته وبين وهن الأصفر وشيخوخة الأوراق التي تتساقط، كذلك العيدان الجافة التي تتصدر اللوحة، كذلك اللون الأحمر الذي يوحي بالقوة والصخب. هذه التدرجات لا تقتصر فقط على الانتقال من لوحة إلى أخرى، بل في اللوحة الواحدة نلحظ حالة التحوّل هذه. فكرة الزمن هنا هي التي تسيطر على حال تتبع النبات، وكيفية تشكّله أو إعادة تشكّله وفق الزمن، وإن كان التجسيد هنا ينصب على الطبيعة، إلا أنه يوحي أكثر بحال وأحوال الكائن الحي، في شكل وتكوين غير مباشر ــ جمالياً في الأساس ــ رغم ما توحي به اللوحات للوهلة الأولى من كلاسيكيتها، إلا أن أثرها يتفاعل وعين المتلقي، ما يخلق حالة من التواصل، حد التناغم ما بين الحِس الإنساني والطبيعة.

قراءة في تجارب تشكيلية مصرية
حيوات العاديين وسيرة الطبيعة وتحولاتها
محمد عبد الرحيم
Source: alghad.com

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *