قراءة في ثلاثة معارض تشكيلية… الحِس الشعبي بين الاحتفاء والدعاية السياحية
[wpcc-script type=”141246ea2e93c36ee670815c-text/javascript”]
القاهرة ـ «القدس العربي»: كثيراً ما يختصر الفنان التشكيلي المسافة بينه وبين المُتلقي، ويكسر حاجز العزلة الفني هذا بأن يعرض شخوصاً وأماكن ومفردات حياة يعيها المتلقي جيداً، لأنه يعيشها بالفعل. وبقدر ما يتواصل الفنان مع هذه الحياة ويُعيد إنتاجها عبر عمله الفني، يتضح مدى تفاعله معها بالأساس، والإحساس بها. فالعمل الفني ــ اللوحة هنا ــ تكشف بدورها مدى صدق الفنان في ما يراه وينقله من خلال تجربته الفنية والشعورية. وفي هذه الحالة تصبح مهمة الفنان أكثر صعوبة، لأنه لا يأتي في عالمه بشيء غريب، بل يكشف عن شخوص ووجوه مألوفة، لطالما طالعناها ونطالعها في الشوارع والمقاهي والحارات المصرية. ويصبح التساؤل هنا: ماذا سيضيف الفن لهؤلاء؟ وكيف سيبدون في العمل الفني؟ وهل يُتاجر الفنان بشخصياته، أم يمجدهم ويتعاطف معهم بالفعل، بداية من لحظاتهم المرحة، وحتى أقسى لحظاتهم المشحونة بالغضب والشجار والنقمة، ليصبح الأمر استعراضاً للسلوك الشخصي والبيئة الاجتماعية والنفسية، التي تتجسد من خلالها الشخصية. ومن خلال ثلاثة معارض تشكيلية تتزامن الآن بفي لقاهرة، وجدنا أن ثيمة «الحِس الشعبي» هي التي تشكّل العنوان الأكبر لهذه المعارض المختلفة. ففي غاليري «آرت كونر» يعرض الفنان محسن أبو العزم أعماله تحت عنوان «ردود أفعال مُضحكة». ثم معرض بعنوان «طبيعي أن نعمل» مُقام في غاليري «بيكاسو» للفنان فريد فاضل، وأخيراً معرض الفنان ماهر موسى، الذي أقامه في قاعة «زياد بكير» بدار الأوبرا المصرية، وجاء بعنوان «الفطرة والبراءة في طقوس وشعائر مصرية».
عالم محسن أبو العزم
أعمال الفنان محسن أبو العزم دوماً ما تثير الدهشة، أولاً لقدرته الفائقة في القبض على التفاصيل الشخصية، من إيماء وملابس وأكسسوارات تعبر عن الشخصية وحالتها النفسية ووضعها الاجتماعي. ثم الاحتفاء الفني بهذه الشخصيات وعوالمها التي يعرفها الفنان حق المعرفة، دون ادعاء أو استعراض أو متاجرة بهؤلاء. فاللوحات تمجدهم في أدق لحظاتهم وتسجل انفعالاتهم في عفوية لافتة، وكأنها لوحات حية أو مشاهد سينمائية تضح بالحركة والحياة. الأمر الأكثر صعوبة، والذي ينجح فيه الفنان إلى حدٍ كبير، هو أن هذه المواقف تبدو عادية تماماً لدى المُشاهد، فلا يأتي الرجل بالغريب، لكنه الاعتيادي الذي يُثير الإدهاش، ويلفت النظر إلى تفاصيل طالما نمر أمامها دون أن نلحظها. هنا نجد المقاهي الشعبية وتجمّع روادها أمام شاشة التليفزيون يطالعون مباراة لكرة القدم، وما يهم أبو العزم هو انفعالات المشاهدين/انفعالاتنا التي لا نراها، بينما هو يجسدها في حرفية شديدة. ثم يلجأ إلى الطقوس الحياتية المعروفة من حفل الزواج، وصولاً إلى حفل ختان المواليد. والكثير من الحالات الأكثر حميمية، بأن تجلس المرأة في بيتها أو حجرتها الصغيرة، تقوم بإعداد الطعام وتتحدث في الهاتف، دون نسيان تفاصيل موحية وشديدة الدلالة، كصورة الزوج الحاضر دوماً، والمُعلقة على الحائط، وكأنه يرى امرأته، وملامحه الغارقة في جديّة تكاد تصل إلى التشنج توحي بالضحك والسخرية الشديدة من المشهد ككل. كذلك حالة المرأة التي تشتري حذاء جديدا، والبائع يلبسها الحذاء في حالة من السعادة، وهو يُمسك بساقها، وهي تبتسم وقد فرضت سُلطة أنوثتها عليه. شخصيات أبو العزم تميل أكثر إلى عوالم الخمسينيات والستينيات من القرن الفائت في الشكل والتكوين الجسدي المُبالغ به بالطبع، دون عدم نسيان لمسات حداثية. إضافة إلى استحضار مظاهر وحالات قد تكون في سبيلها إلى الاختفاء، كفرقة «حسب الله» الشهيرة، وعازفيها القدامى. ما يميز هذه الأعمال أيضاً هي أن الشخصيات دوماً في حالة فعل، فلا يوجد أحد «ينظر إلى الأفق في لحظات تأمل وجودي» ــ هذه العبارة تتردد دوماً في الأعمال الفنية التي لا تهم سوى أصحابها ــ بل هناك الحياة بكل صخبها وانشغالاتها، وهو ما يقرب كل لوحة إلى عالم المشهد السينمائي، من حيث الحركة والتفاصيل. وهذا بدوره ما يُفسر العمل من خلال لقطات عامة في كل اللوحات، فلا توجد لقطات قريبة لشخصية بعينها، حتى وإن كانت اللوحة لشخصية مفردة، فإن الاهتمام بتفاصيلها ومكانها وما تفعله، يجعلها تتجسد من خلال لقطة عامة، لا اللقطات القريبة. أخلص الرجل تماماً لهذا العالم، وجسّده في حب شديد وسخرية أشد، وما على المُتلقي إلا أن يعيد النظرفي شأن هؤلاء، مهما بدت ملامحهم مُتجهمة أو غاضبة، فلا يستطيع سوى التعاطف الحقيقي معهم والابتسام في وجوههم.
طقوس ماهر موسى
يحاول الفنان ماهر موسى أن يستعرض الطقس الشعبي الريفي، من طقوس دينية وحياتية كالزواج وما شابه. ويبدو أن الفعل الطقسي هو ما يهم الفنان، فتأتي شخصياته أثيرة هذا الفعل أو ذاك. هناك حالة من الاحتفاء بهذه الطقوس، ومدى تأثيرها على القرية المصرية وشخوصها. يبدو ذلك في لقطات مثل تحضير العروس للزواج، والتفاف النسوة حولها، دون نسيات تأصيل مفردات المكان، وهو البيت الريفي وتكوينه المعروف. كذلك الجامع واستماع روّاده إلى مُقرئ القرآن، أو التجمّع بحلقات الذكر في القرية، والنسوة وجرارهن على شاطئ النيل. مظاهر ريفية يحاول الفنان الحفاظ عليها في لوحاته. ليبدو التفاعل اللوني المُستمد من هذه البيئة، كالأخضر المُسيطر على أغلب اللوحات مثلاً. من ناحية أخرى نجد حجم اللقطة/اللوحة دوماً ما يتراوح ما بين اللقطة العامة والمتوسطة، فالحدث أكثر أهمية من الشخص، لا توجد ذات هنا يريد التأكيد عليها، بل مجموع يعيش ويتنفس هذه الشعائر.
استشراق فريد فاضل
«طبيعي أن نعمل» تحت هذا العنوان أتي معرض الفنان فريد فاضل، والطبيعي أيضاً أن نشهد مخلوقات في لحظات عمل أو فعل بمعنى أعم. تنوعت اللوحات بين عدة بيئات تجسّد هذا الفعل، ما بين جنوب مصر وسواحلها وقراها. إلا أن اللافت في كل هذه الأعمال، رغم الحرفية الشديدة والتقنية والأسلوب الاحترافي كالتكوين العام للوحة، ونسب الشخوص والجو العام للبيئة المحيطة الذي تتمثله اللوحة تماماً. رفم كل هذا تبدو اللوحات بعيدة تماماً عن عالم هؤلاء المتجسدين خلالها. فالفنان ينظر إليهم كأحد أدوات تنفيذ اللوحة، لا حياة في وجوههم ولا أفعالهم. الأمر في عدة أعمال يقترب من لوحات المستشرقين ــ وقد أجاد بعضهم ونجح في نقل روح الشخصيات في عمله الفني ــ هناك نظرة مُتعالية تلحظها عين الرائي بسهولة شديدة، إضافة إلى عدم منطقية بعض التفاصيل ــ كما لاحظ أحد الأصدقاء بالمعرض ــ كالفلاحة العجوز ذات الوجه الأرستقراطي، التي تقوم بغزل الصوف (التريكو). الأمر يتضح أكثر في البورتريهات، التي من المفترض ان تجسد شخصيات للعجائز والشباب من جنوب مصر، هناك تحوير ما بين وجه لا يمت لوحوه الجنوبيين، وفقط استخدام ملابسهم لوجه آخر ينتمي لفئة لا تعرف هذه البيئة إلا من خلال شاشات السينما وكروت البوستال السياحية. والفنان في كلمته القصيرة عن المعرض يوضح فكرته أكثر بكلمات ملتوية أشبه بكلمات الفضائيات المتوائمة مع النظام السياسي، ويرى أن التظاهرات والاحتجاجات الفئوية ــ المُسمى الإعلامي نفسه ــ أصبحت «موضة» بعد ثورة 25 يناير. ويكمل الفنان كلمته في ما يُشبه المانفيستو الإعلامي قائلاً «أجد تشابهاً كبيراً بين آلام الوضع ومعاناة وضع مصر الحالي، بعد أن توفرت لها الإرادة السياسية أخيراً لبداية جديدة حقيقية تحاول تحاول علاج المشاكل المتفاقمة من جذورها». ولم ينس الفنان أن يتصدّر معرضه صورة لرئيس الجمهورية الحالي. هنا يبدو إحساس وسمة الفئة التي ينتمي إليها الفنان، وبالتالي الخوف على مصالحها، سواء من تبعات فعل ثوري أو احتجاجات تؤرق سكون وهدوء هذه الفئة ــ لا أدري إن كان ينتمي إليها أو يتشبث بها ــ وبالتالي استغلالهم والمتاجرة بهم من خلال عمل فني، يرى أنه يحتفي بهم، فقط من وجهة نظر الفنان، دون أي اعتبار للشخصيات نفسها. لذلك كان لابد من الإحساس بالتكلف الشديد، والنظر إلى هؤلاء وكأنهم تحت مجهر في معمل للتجارب، وان يتحوّل العمل الفني ــ رغم حِرفيته ــ إلى ما يُشبه الترويج والدعاية السياحية لشخصيات لا توجد إلا في مخيلة الفنان فقط.
محمد عبد الرحيم