قراءة في معارض ثلاث تشكيليات مصريات: التجريب ومحاولات تجاوز التراث التشكيلي
[wpcc-script type=”5b3e07458c5011aa8feac745-text/javascript”]
القاهرة ـ «القدس العربي»: تجارب تشكيلية متباينة، ومغامرة بصرية تناولتها ثلاث فنانات تشكيليات مصريات، حاولن فيها الخروج عن السائد والشائع البصري، بداية من الموضوع وحتى المادة التي يعملن من خلالها لتجسيد أفكارهن. لا نستطيع معهن الهرب من مناخ اجتماعي في الأساس، قد يبدو أحياناً فيه بعض من تعالٍ، أو تبني وجهة نظر وأسلوب متهافت، لكن في النهاية تتمثل حالة التجريب، ومحاولة السير في اتجاه آخر غير تقليدي، وغير شائع كما في الكثير من الأعمال الفنية الكثيرة، التي نطالعها في العديد من المعارض التي تستعرض تجربة المرأة التشكيلية بوجه عام. وفي شيء من التزامن جاءت هذه المعارض لتكشف روحاً مختلفة لدى الفنانات المصريات بداية من الفنانة إيمان حسين ومعرضها المعنون بـ «السيدة ميريل المصرية» وهي أكثر الفنانات تجريباً وجرأة في التعامل مع الموضوع والمادة التشكيلية، مرواً بالفنانة صفية القباني في معرضها «جداريات مصرية» ومدى صعوبة تطويع المادة لتجسيد أفكارها، وصولاً إلى الفنانة مريم عبد الوهاب ومحاولاتها تجسيد صراعات نفسية واجتماعية في شكل يتجاوز ما يُسمى بالواقع على مستوى اللون والرمز والتكوين. هذه قراءة في هذه التجارب والأعمال اللافتة، والتي تختلف في مجملها كثيراً عن العديد من الأعمال الفنية، لفنانات وفنانين أكبر سناً وتجربة وخبرة، لكنها توقفت عند التقليد واستنساخ ما كان، دون إضافة أي جديد إلى الحركة التشكيلية المصرية. ورغم أن تجارب الفنانات محل القراءة لم تزل في طور التجريب والتكوين، إلا أن السمة الأهم هنا تتمثل في روح الجرأة والإصرار على تجاوز ما كان، حتى ولو تباينت هذه التجارب من حيث المستوى والدلالة الجمالية للعمل الفني.
«السيدة ميريل وعالمها»
في قاعة أوزوريس في القاهرة أقامت الفنانة إيمان حسين معرضها «السيدة ميريل المصرية» وتحمل اللوحات تحويراً لعدة أفكار وأيقونات ــ إن جاز التعبير ــ من تراث الفن التشكيلي، بداية من اللوحة الأساسية (السيدة ميريل) للفنان (Jean delville 1953 ــ 1867) إضافة إلى الكاتب المصري القديم المتجسد في جلسته المعهودة، كذلك النجمة الخماسية ودلالتها كشكل يعارض الدلالة المقدسة للثالوث المقدس. وفي محاولة لتجسيد هذه الأفكار المتباينة تسعى الفنانة إلى خلق عمل فني يستمد بنيته من امتزاج هذه الأشكال/الأيقونات، يبتعد عنها ويتصل بها في الوقت نفسه. وحتى لو لم توضح الفنانة وفي شيء من الاستعراض مدى ما استندت إليه من أفكار في صياغة أعمالها، يبدو الحديث عن اللوحات، وهذه الصورة المتكررة للمرأة التي أصبحت جالسة الآن، في وضع الكاتب المصري، ويبدو جنينها ظاهراً، وهي في جلستها نفسها، هذا الجنين الذي أصبح على صورة «الرجل الفيتروفيان» حيث النِسب المثالية للجسد الإنساني. هكذا هو الوضع الجنيني إذاً، وهذه المثالية المزعومة، وهي في دورها متناقضة مع ما سيفعله الإنسان في ما بعد، حالة التشوه هذه تحتفظ بها الفنانة لما سيكون، أما الآن فهو داخل عالم مثالي، تجلس فيه المرأة/الأم ومصدر الحياة والطاقة المُحرّكة للعالم في صبر الكاتب المصري، الذي توارث أبناؤه مهنته، هكذا تجلس المرأة، والتي لا يبدو منها سوى تفاصيل الخصوبة. نشهد هنا اتصالاً حضارياً على مستوى الرمز، وتحويله إلى شكل أنثوي يحتفظ تماماً بهذه القدرة المدهشة على عملية الخلق واستمراره، وكأنها مهنة مقدسة خرجت من المعابد والجداريات إلى ما نحياه اليوم. هذا الكمال الإنساني بمجرد خروجه من عالمه الرحب، سيطوله الكثير من التشوّه، وما السعي بعد ذلك إلا محاولة لاستعادة هذه الحالة من الثقة والاتزان النفسي مرّة أخرى.
«جداريات مصرية»
وتأتي تجربة الفنانة صفية القباني في معرضها «جداريات مصرية» والمُقام حالياً في قاعة الباب، في دار الأوبرا المصرية، لتصوغ عالمها من خلال تقنية الموزاييك والرسم على الزجاج، وهي تقنية غاية في الصعوبة وتحتاج إلى مهارة كبيرة، لتجسيد تفاصيل عالم اللوحة. تحاول الفنانة الاحتفاء بالبيئات المصرية المختلفة، كالبيئة الساحلية، والبحر وعالمه، إضافة إلى منازل وحواري البيئات الشعبية في المدن. حالة من التعاطف نلحظها في كل عمل فني. سواء تمثل في أعمال الطبيعة الصامتة أو الحية. من ناحية أخرى تبدي الفنانة اهتماماً كبيراً بالتفاصيل، خاصة تفاصيل الأماكن، وتكويناتها داخل اللوحة، وكأنها مخلوقات تتحاور في ما بينها. ورغم تباين أحجام هذه اللوحات، ومهارة صاحبتها في خلق العمل الفني، إلا أن حالة الاحتفاء هذه تتأكد في كل لوحة، دون استعراض فارغ لحِرفية الفنانة التي لم تغب عن عين المُتلقي. من هنا يأتي تطويع الخامات لخلق هذه الحالة في الأساس، دون أن نلمح أي ادعاء فني كما يفعل الكثيرون، أو استعراض عين غريبة عن العالم الذي يعبّرون عنه ــ حالة تفلسف مزمنة وفارغة ــ تجاوزت القباني هذه الحالة، وتفاعلت مع عوالم تعرفها بحق. حالة التباين أيضاً تبدو في اختلاف أعمال الموزاييك عن أعمال الرسم على الزجاج، حيث يبدو في الأولى الروح الطفولي، رغم تعقيد بعض اللوحات عن بساطة الأخرى، بخلاف لوحات الزجاج التي تبدو أكثر تمرساً وحِرفية. الحالتان تخضعان للروح نفسها، ومحاولة التعبير عن عالم نراه دوماً، لكن في شكل فني يضيف إلى ما يوصف بالواقع، ويُعيد إنتاجه في تجربة جمالية متميزة وخاصة بصاحبتها.
«المرأة وكوابيسها»
وفي الأخير تأتي تجربة الفنانة مريم عبد الوهاب، في معرضها الذي أقيم أيضاً في قاعة الباب، في دار الأوبرا المصرية. هنا يتم التحاور بين الرمز واللون والحركة. حالة كبيرة من الزخم البصري، وتتمثل المرأة في كل لوحة بكل تفاصيلها، انعكاساً لحالات نفسية متباينة، ويبدو عالمها المفارق للواقع ــ لا نستطيع وصفه بأنه سريالي ــ لكنه أشبه بتحويرات مرموزة وتشكيلات تحاول خلق حالة من التواصل مع مفردات حضارية ضاربة في القِدم، كعين الإله حورس، والشكل الهرمي والعين التي تنتصفه ــ من الممكن مقارنة هذه التجربة وتجربة إيمان حسين ــ هذا من ناحية، إضافة إلى حالة المزج ما بين الجسد الأنثوي والطيور والحيوانات، البوم والخيول، والحوار بينهما عبر اللوحات، حتى حالة الحلم بهذه الأجنحة الضخمة التي أصبحت كجزء أسمى في الجسد. ورغم أن حالة عبد الوهاب هي أكثر الحالات مباشرة في التناول، فالاعتماد على الصخب والزخم اللوني وتداخل العوالم لن يستمر طويلاً أمام المتلقي، حالة الإبهار الأولى ستخبو، وتبقى الفكرة وكيفية تجسيدها والتعبير عنها من خلال عمل فني، وما التفاعل مع رموز معروفة سلفاً إلا ترجمة حرفية وسريعة لفك شفرات اللوحة، المرأة والحرية والطقس الذكوري والشكل الانتقامي في التحقق، والاحتفاء بالجسد وتفاصيله، كلها ثيمات متكررة في العديد من الأعمال الفنية، خاصة أعمال الفنانات التشكيليات. من هنا نلحظ فارقاً آخر، وهو ما نجحت فيه الفنانة صفية القباني، فلم يكن التحيز للأنثوي هو شاغلها الأوحد، ولكن الروح الأنثوية في التعامل مع المكان والمجردات والتفاصيل الدقيقة هو ما نلحظه، وهو ما جعل لهذه التجربة دلالتها الجمالية. إلا أن اللافت في أعمال الفنانات هو خروجهن عن حالة التقليد أو التغريب، هذه الحالة الشائعة الآن في الحركة التشكيلية المصرية بشكل كبير.
محمد عبد الرحيم