قراءة في معرضي المصريين سمير عبد الرحمن ومجاهد العزب: التقنية وجماليات الخلق الفني ليست غايات في ذاتها
[wpcc-script type=”024b526525a56f80fca89199-text/javascript”]
القاهرة ـ «القدس العربي»: لم تكن التقنية غاية في ذاتها بالنسبة للفنان، الذي يبحث من خلالها عن تطورات للشكل الذي يصوغ عن طريقها عمله الفني.
والتمرّس في تجريب التقنيات، واختبار حداثتها مع حالة تراكم معرفي وحياتي، هو ما يجعل من العمل الفني حاملاً لبصمات صاحبه، وعاكساً جماليات حالة الخلق الفني، التي لا تعوقها التقنية، ولا تظهر كأسلوب من أساليب الاستعراض الذي يُخل بمعالجة الفكرة والموضوع، الأمر يتجاور إذاً ما بين تاريخ وخبرة معرفية، إضافة إلى علم بأساليب ومدارس الفن التشكيلي. هذا ما نجده في المعرضين الأخيرين لكل من الفنانين سمير عبد الرحمن، من خلال معرضه الذي أقامه في غاليري (دروب)، ومعرض الفنان مجاهد العزب، الذي أقامه مؤخراً في (أتيليه القاهرة/قاعة راتب صديق).
ورغم اختلاف التجربة الفنية، إلا أن المُلاحظ هو التعامل الحِرفي في الأساليب والتقنيات في معالجة الموضوعات والأفكار الفنية في حالة من الوحدة الفنية المُتكاملة، بحيث تختفي التقنية في سبيل الفكرة وكيفية معالجتها، وهو أقصى ما يريد الفنان الوصول إليه من خلال عمله الفني. عالم مختلف ما بين حِس تجريدي وإيحائي، كما تبدو أعمال مجاهد العزب، بينما التراث الحضاري والشعبي المصري يبدو جلياً في أعمال سمير عبد الرحمن.
الروح المصري والتقنية الحديثة
التجربة الجمالية عند الفنان سمير عبد الرحمن تبدو شديدة الارتباط بالمأثور الشعبي والتراث المصري في جميع مراحله، وهو ما يعكس معتقدات المصريين وتحولاتها والحفاظ عليها في الوقت نفسه، وهو الأمر الصعب في معالجة موضوع ممتد ومتحوّل خلال التاريخ المصري القديم، وخروجه من المعابد واستمراره في شكل طقس شعبي، أخذ التحوّل الديني وطوّره ضمن مفهوم المصري وتراثه الطويل. يحافظ عبد الرحمن على حالة الاستمرارية هذه، في الطقوس والمعتقدات، من خلال المزج بين عدة حالات في اللوحة الواحدة، وما يُساعد على وضوح الفكرة ومعالجتها هو التباين ما بين اللون والحركة والرمز الأيقوني الشعبي، إضافة إلى العبارات الدالة على ثقافة أو حالة دينية ما، وهنا يمتزج الفرعوني بالقبطي بالإسلامي في توازن محسوب.
نجد في اللوحات تجاورا لعدة مظاهر لما مرّ به المصري في حياته، وخلق منه طقساً ممتداً غير مهجور، وذلك في إيقاع حركي ولوني يحيل دوماً لجداريات المعابد الفرعونية.
فالفلاحون أصحاب الفؤوس والفلاحات حاملات الجرار اللواتي أصبحن يقفن كما الآلهة في الجداريات القديمة ــ الجرار حلّت محل القرابين ــ التفاصيل نفسها حيث التكوين الجسدي والشكل ــ البروفايل ــ إضافة إلى إكسسوارات تمتد لزمن آخر، كالهلال وهو يرمز للديانة الحديثة التي أصبح المصريون يتعنقونها ــ أغلبيتهم ــ ليصبح في خلفية اللوحة، إضافة إلى موروث اتقاء الحسد ــ العين الزرقاء ــ وهو رمز أيقوني لدى المصريين، يدل بنفسه على معناه في المجتمع. الملمح الآخر هو استحضار طقوس حديثة نسبياً وأشكال أكثر حداثة تصبح في اللوحة وكأنها أصبحت ضمن مفردات الحضارة الشعبية المصرية القديمة… كرجل يحمل سيفاً ويعتلي حصانه، أو تجسيد رقص الصوفية في شكل أشبه بالجداريات القديمة، وخلفهم قبة المقام، وقد تحول الضريح الفرعوني للملك القديم سليل الآلهة إلى ضريح أحد أولياء الله الصالحين، حيث يتحلق حوله الجميع. كما يُسجل سمير عبد الرحمن في عدة لوحات متتالية طقوس الزواج وتحضير كل من العريس وعروسه لهذه المناسبة، من تزيين كل منهما، وعزف الفتيات ورقصهن وتحطيب الرجال ومزاميرهم، حتى يلتقي الرجل والمرأة في حالة صخب من الجميع، وهو ما يحدث حتى الآن في بعض قرى مصر، سواء في الشمال أو الجنوب، مع اختلاف طفيف في التفاصيل الخاصة ببيئة كل منهم.
الفنان سمير عبد الرحمن من مواليد عام 1947، تخرج في كلية الفنون التطبيقية عام 1972. شارك في الحركة التشكيلية المصرية منذ عام 1971، من خلال معارض جماعية وخاصة. اهتم في أعماله بعالم الطقوس والإرث الشعبي المصري من معتقدات ومظاهر اجتماعية لم تزل تمارسها الجماعة الشعبية حتى الآن، ويستخدم في معالجة موضوعاته تقنيات وأساليب حداثية، تقوم بالأساس على الاختزال والتجريد.
عالم التلقي وانفعالاته
بداية تتنوع أحجام لقطات الفنان مجاهد العزب، ما بين اللقطات القريبة للعامة، لقطات تقترب من البورتريه، وأخرى تبدو فيها المجموعات البشرية، الملامح واضحة التفاصيل، وأخرى تخفي التفاصيل قليلاً لصالح كتلة الجسد ــ خاصة الجسد الأنثوي ــ الذي يبدو بدائياً في تكويناته ــ حالة التجسيد هذه يُحيطها حِس تجريدي، يُعيد تركيب الجسد ويخلق حوله عالمه الخاص، الذي يختلف تماماً عما رأته عين المُتلقي من قبل، امرأة في شرفتها مثلاً، كم من الأعمال الفنية تناولت مثل هذا الموضوع، إلا أن التجريد يخلق حالة أخرى تثير الكثير من التداعيات في وعي المُشاهد، هذا ما يلعب عليه العزب، من خلال لوحاته من مخلوقات في خلفية اللوحة وأخرى في المقدمة، تبدو وكأنها مكان المُتلقي، هي التي تشاهد، ولكن نظراً لكونها باللون الأسود، تبدو كفجوات من الممكن أن يضع المُتلقي نفسه مكانها، ويبدأ في النظر إلى الأشخاص أو رؤوسهم المتراصة، ماذا في عقول هذا الجَمع؟ ما هو هذا العالم؟ فنحن لسنا أمام لوحة تحل مفرداتها بسهولة، رغم ما تبدو عليه من أشكال أحاطها التجريد، نظن أننا نعرفها، لكن علينا تخطي عتبة الوعي قليلاً لتبدأ عملية التداعي، وخلق عالم موازٍ، خاص بالمُتلقي وحده.
حاول العزب أيضاً أن يؤكد ما انتواه من خلال اللون، فاللوحات تركيباتها اللونية غير مُعتادة، ولا نجد لوناً نظن معرفته ــ في سياق العمل ــ إلا اللون الأسود، باقي الألوان تخضع لتركيب دقيق، فلا يوجد لون إلا وهو مُعاد إنتاجه ليصبح أحد مفردات اللوحة، من حيث الإيحاء بالمعنى، لتكثيف حالة التداعي واستمراريتها، وهنا تصبح التجربة الشعورية والانفعالية ذاتية جداً، توّلدت عن اللوحة وعالمها، واحتفظت للمُتلقي في الوقت نفسه بشخصيته وعالمه وذكرياته التي ربما ظن أنه نسيها.
الفنان مجاهد العزب عضو أتيليه القاهرة واتحاد الكتاب، أقام العديد من المعارض الجماعية والخاصة بداية من عام 1974 وحتى الآن. له العديد من المؤلفات الفنية والفكرية والأدبية، منها.. «موسوعة الثقافة المصرية والفن التشكيلي» ــ دراسة في الهوية/حق الاختلاف ــ المسكوت عنه في الثقافة المصرية/وفي الرواية .. لصوص وقتلة وقطاع طرق أو على الأقل نصابون، عُرف الهدهد». إضافة إلى تصميم ديكورات وإضاءة عدة أعمال مسرحية.
محمد عبد الرحيم