«قهوة لكل الأمم» للفلسطينية وفاء جميل: مقاومة هادئة بعيداً عن الصخب السياسي وزيف الساسة

القاهرة ـ «القدس العربي»: بعيداً عن صخب السياسة ومهازل الساسة، والمقولات والعبارات المُعلّبة عن النضال وطُرقه الضالة في أكثرها، يأتي الفيلم الوثائقي «قهوة لكل الأمم» لمخرجته الفلسطينية وفاء جميل، عملا فنيا في المقام الأول، انفلت من كونه مجرد تصريح سياسي، كالعديد من الأعمال التي تمس القضية الفلسطينية، أو تتحدث من خلالها.

«قهوة لكل الأمم» للفلسطينية وفاء جميل: مقاومة هادئة بعيداً عن الصخب السياسي وزيف الساسة

[wpcc-script type=”db827d835318b7f429c73a4a-text/javascript”]

القاهرة ـ «القدس العربي»: بعيداً عن صخب السياسة ومهازل الساسة، والمقولات والعبارات المُعلّبة عن النضال وطُرقه الضالة في أكثرها، يأتي الفيلم الوثائقي «قهوة لكل الأمم» لمخرجته الفلسطينية وفاء جميل، عملا فنيا في المقام الأول، انفلت من كونه مجرد تصريح سياسي، كالعديد من الأعمال التي تمس القضية الفلسطينية، أو تتحدث من خلالها.
الفيلم يتتبّع حياة شخصية فلسطينية، تقاوم بطريقتها، في حِس سِلمي تماماً، وبعيداً عما يُطلق عليها سلطة فلسطينية، بمفرده، ومن خلال وجوده وتمسكه بأرضه، بعيداً عن الشعارات المراوغة والكاذبة. أنتج الفيلم في العام الفائت 2015، من إنتاج فلسطيني سويدي مُشترك، ومدته 52 دقيقة، وعُرض مؤخراً ضمن عروض مهرجان القاهرة الدولي التاسع لسينما المرأة.

فقط.. فنجان قهوة

عبد الفتاح أو «عبد» كما يطلقون عليه، تم تهجير أسرته منذ عام 1948، عن قريته ــ قرية الولجة ــ وتسكينه في مخيم الدهيشة القريبة من بيت لحم. لم يتوان الرجل طوال 22 عاما عن الوصول إلى هذه الأرض، ومحاولة زراعتها، حتى اكتشف أحد الكهوف فوق أرضه، الذي يعود زمنه إلى آلاف السنين، فجاءت له الفكرة بأن يحوّل هذا الكهف إلى مقهى، يؤمه الكثيرون من مختلف البلاد والجنسيات بمن فيهم اليهود أنفسهم. فوثّقت المخرجة هذه الرحلة أو هذه الحياة التي وهبها الرجل نفسه عن طيب خاطر، في فيلم سينمائي، أطلقت عليه «قهوة لكل الأمم». حالة البحث عن السلام هذه بين البشر، دون التوسل بمعتقد أو مذهب سياسي، فقط مخلوقات اجتمعت حول فنجان من القهوة.

الرحلة

ليكن بيتاً من الطوب في البدأ يبنيه، ثم ما يُشبه كرافانا معدنيا متواضعا يُقيمه، سقف وأعمدة من الخشب من حرارة الشمس تقيه، ليدمر الاحتلال كل ذلك، فلا يجد سوى كهفٍ قديم يأويه في النهاية. وحوله يقوم بتربية الطيور والأرانب وزراعة بعض النباتات، وفي الكهف يصبح المقهى الذي يحتوي الجميع، من بلاد بعيدة ومن ساكني قرى ومستوطنات الاحتلال، يباركون تجربته، ويستمتعون باحتساء القهوة في الهواء الطلق، وفي هذا المكان الأثري. ما يهم الرجل هو مواعيد إطعام الطيور، وري الزرع، والحفاظ على المقهى.
يعيش الرجل أملاً في كل لحظة على تجاوز المحنة، رغم ما يكلفه هذا الأمل. وهناك العديد من العبارات والمواقف التي ترسم هذه الحالة، من دون ادعاء أو تلفيق .. «أنا في القدس … وهذه أمنية كل فلسطيني أن يكون في القدس»، هذه العبارة يقولها عندما يذهب إلى المحكمة التي ينتظر قرارها المعروف سلفاً بالرفض. يواصل الرجل العمل، ويحتفي بجمع الزيتون، ويتذكر أغنيات أبيه وأمه عندما كانا يجمعان الزيتون، لكنه يدرك الحقيقية، ولا يعيش الخيال كما تتهمه زوجته، فيقول .. «ربما لا آكل من هذا الزيتون، لكن الأصدقاء والأحباء سيأكلون، وهذا هو الأهم».

الأزمة

يعيش الرجل العديد من الأزمات على المستوى الشخصي والأسري، وكذلك مشكلاته مع قوات الاحتلال ومحاكم وقضاء الاحتلال. الزوجة التي ترى زوجها يحرث في البحر، ولا تعي أو تلتفت لما يفعل، مجرد هراء وتضييع وقت لا طائل منه.
وكما قالت بأنه رجل لا يعيش الواقع، فلا هو ولا ما يفعله، ولا السلطة الفلسطينية سيُغيرون ما هو قائم، ولا عودة إلى ما كان إلا في الخيال. على الجانب الآخر تأتي مشكلاته مع الاحتلال، الذي يريد أخذ هذه الأرض بالقوة ــ الأرض تحيطها المستوطنات من كل جانب ــ ومن خلال سبع سنوات في المحاكم الإسرائيلية، ما بين تأجيل وآخر وبعض الأحكام غير القاطعة، لتصبح قضيته مُعلّقة.
وأخيراً مشكلاته الصحية، التي بدأت مؤخراً، أمراض الرئة والقلب، حتى أصبح يتردد على المستشفى في تواتر يساوي زيارته إلى أرضه التي ابتعد عنها رغماً عنه.

الضحايا

عبد الفتاح ربما يكون ضحية ما يحدث، والمفارقة أن يصبح أخاه ضحية ما حدث! فبعد ثلاثين عاماً في سجون الاحتلال يخرج شقيقه من المعتقل، يمسك بيده لتحية الجميع محمود عباس رئيس السلطة الفلسطينية. دفع الرجل ثلاثين عاماً من حياته داخل السجون، ليخرج ويعيش في حيرة واضحة، فالحياة والناس والأماكن لم تعد كما تركها. يحتفي الجميع بالمناضل تائه البصر، احتفاء لحظيا كما فعل أبو مازن والتقط الصور معه، لكن في النهاية هي الوحدة التي تجمعه بأمه وشقيقه عبد الفتاح، الذي خلق من الحياة نضالاً بالفعل، رغم اختلاف الآراء حول ما يفعله. هذا ليس تقليلاً من مناضل دفع حياته ثمنا، لكن فقط لتوضيح التباين بين الموقفين، والاختيار بين طرق النضال والمواجهة الدائمة. أي منهما عاش وظَل؟ وأي منهما يحاول الحياة؟!

التقنية وجماليات العمل السينمائي

يُحسب للمخرجة وفاء جميل دِقة اختياراتها، بداية من الموضوع أو الشخصية الدرامية بطبعها، فالرجل لا ينتمي لفئة الساسة، أو المناضلين تحت مظلة السياسة والتحالفات، الرجل مثله مثل الكثيرين الذين يعيشون ويعانون الحياة في الأرض المحتلة، ثم أصبحت الشخصية هي التي تقود المسار السردي، وأن توجد في أماكنها، ليس لمجرد التوثيق المعهود، كما في العديد من هذه الأعمال، ولكن لإظهار حالة الرجل النفسية والصحية وتطورها مع الزمن. التزمت الكاميرا بإيقاع الرجل نفسه ــ حركته وصوته عند الحديث ــ وصولاً إلى توتره في بعض المواقف، كما في مشهد وجوده في بيته ومواجهة زوجته لما يفعل، الكاميرا متوترة، ولا تهدأ، بخلاف إيقاع التأمل والهدوء، عندما يصبح في أرضه، وبين رفاقه. من ناحية أخرى لجأت المخرجة إلى الاستعانة باللقطات الأرشيفية ــ خروج الأخ من السجن ــ وهو حدث حقيقي، تمت إضافته إلى الأحداث، ليدخل في إطارها الزمني. اللقطات لا توحي بالأسى، قدر ما توحي بالقوة، حتى في أقسى اللحظات، حيث ضاعت الأرض تحت جرّافات قوات الاحتلال، وانتهى الكهف، من دون أن تنتهي أسطورة صاحبه عبد الفتاح، أو «عبد» كما يطلقون عليه، والذي مات في يوم الثلاثاء الموافق 16 ديسمبر/كانون الأول 2014. قبل العرض الأول للفيلم.

محمد عبد الرحيم

Source: alghad.com

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *