لوحات الجزائري مراد عبد اللاوي: خطوط قليلة تسكن مساحات لونية صانعة للسلام الداخلي
[wpcc-script type=”175f7c78dc7c9af367c26ad8-text/javascript”]
من الممتع أن تكون أنت صاحب الفكرة والتأويل لعملٍ فني ليس من صنعك، سعادةٌ تحمل من النَّشوة الكثير. أن تسكب هواجسك فوق الألوان النّائمة فتوقظها مئات المرات، أن تبني من خيالك خطوطاً فوق كيانات اللوحة المبهمة والمتماهية مع المحيط. أمام أعمال الفنان الجزائري « مراد عبد اللاوي» – مواليد 1964، الحائز على شهادة الفنون الجميلة عام1988- لم أفعل ذلك وحسب، بل بدأتُ أطارد الوجوه التي تطلّ من بين الألوان، وكأنها تخاطبني وحدي دون الجميع، تقودني لغابات بيضاء وبحيرات ملوّنة، أغرق بسماع معزوفة لا لونية فقط بل ذات صوت رنان. كيف لا يكون ذلك صحيحاً وقد أرجع العديد من النقاد ظهور الفن التجريدي والنّزعة إلى الخروج عن تقاليد التصوير وإلغاء الطبيعة الواضحة في الأعمال الفنيّة إلى تأثر الفنانين بروح العمارة وروح الموسيقى. ففي عام 1912 عرض الفنان التشيكي كوبكا، لأول مرة، لوحات مجردة مستوحاة من الموسيقى، وكان الأخير رائداً لجماعة من الرسامين التجريدين، دعوا أنفسهم «الموسيقيين» Musicalistes، عام 1920، فكيف لا يكون للوحات هؤلاء أصوات نابعة من لوحاتهم؟
أنا، بشكل شخصي، أجزم أني سمعتُ لحناً من روح سوناتا القمر من إحدى لوحات عبد اللاوي، الفنان الذي استطاع أن يُبسّط هذا العالم المعقد المتشابك الخطوط، كبيت العنكبوت المزدحم الألوان، كحلم طفل، بخطوطٍ بسيطة شفافة كأوتار قيثارة، ومساحات لونية صافية مرة ومتداخلة أخرى، تخلق عالماً جديداً أو ربما تعيد تشكيل عالم قديم. فالفنان يرسم لوحات من الحياة، يرسم الحياة نفسها، فكما قال بيكاسو بعد أن ادعى البعض بأن التجريد هو الانفصال عن أشكال الحياة المألوفة: «لا وجود لمثل هذا الانفصال في أي لوحةٍ فنية، لأنها لابد أن تمت للحياة بصلةٍ ما». كان بيكاسو يرى خيوط اللعبة التي تحرك المشهد، ويلتقط الكيانات المختبئة في اللوحة.
بالطبع ليست كلّ عين ترى، لكن مع عبد اللاوي الرؤيا من حصة الجميع والفهم يختلف ويتباين، فلوحته بصمة في عالم الفن يترك المتلقين يتنزهون بين خطوطها، فهو العارف بكيفية اختزال بنية اللوحة والتي عُرفت بتطبيق فكرة أن الطرح بالبيان والتبيين لا يكون إلا بما قلّ ودلّ. فخطوطٌ قليلة تسكن مساحات لونية قادرة على منحك سلاماً داخلياً، وهل مطلوبٌ من الفن أكثر من ذلك؟ هل علينا أن نطالبه بأن يكون واضحاً كشمسٍ إفريقية، فشمسٌ كشمس لندن خجولة ومدفونة تحت الغيوم تُربكنا؟ عن هذا يقول موندريان: «التصوير غير مطالب حتى في أكثر عصوره واقعية ودقة، بأن يوحي إلينا الأفكار المتشابهة أو العواطف المتجانسة، وليس من المعقول أن نلتمس من الفن مثل هذا الجمود».
سنترك العين، إذاً، تعدو في سهول ألوان عبد اللاوي الشاسعة لتتصيد الفرح في الصحاري الشاحبة، ولتحذر من التناقضات التي لا تفارق اللوحة ولا حتى حياتنا اليومية، فبين المساحات الباردة يطل لونٌ قوي يعيد الثقة للروح ويُلهب المكان، بين المبهم والغامض تتنقل العين بمرونة وخفة لتنسى التفاصيل وترتاح في مخيلة الفنان التي جسّدت الحلم الضبابي على لوحة وصار في متناول يدينا. وبعيداً عن لغة البساطة والتزيين المجاني يشحن عبد اللاوي لوحاته بالحركات حركة هيجان، حركة غليان، تصادم ، تقاطع … ينتج عنها في معظم الأحيان انفجار، الشيء الذي يرغم الفنان على التعامل مع اللوحة ومعنا أيضاً وفق الشَّظايا النّاتجة مما يحصل.
سحرُ اللون النابع من أغوار النفس يرقص ما بين الشعور واللاشعور. فالأسود والأبيض يتألفان ليس على رقعة شطرنج هذه المرة إنما بين نسيجٍ من ألوان مختلفة، الشمس يمثلها عند عبد اللاوي بضعة أشعةٍ صفراء، والزهرة ليست أكثر من بقعةٍ حمراء، الازدحام مربعاتٌ ملونة منعشة أحياناً ومخيفةً أحياناً أخرى، الحروب شظايا ظاهرة هنا وهناك أما الحياة فما هي إلا انتقال في التدرجات اللونية من لونٍ لآخر أو من الفاتح للداكن. ونحن كالعادة على المروج الرماديّة نبحث عن ذاتنا الضائعة، علّ عبد اللاوي قد وجدها وهو يحفر بريشته على صخرة الكون تجليات إنسان لا تخلو من عمقٍ فلسفي، تآلفٌ مهيبٌ في لوحات مراد وهنا عين الإتقان الفني كما يرى موندريان أيضاً: «إن كل ما في التجربة المعاصرة من جدارة فنية يكمن في التعبير عن أجمل تآلف بين الألوان والخطوط في أكثر الأشكال المرئية صفاء».
بين سيمفونيات الألوان المنسجمة، وستائر الخطوط المنسابة، يرقد جمالٌ لا مثيل له، يصحو مع إيقاع أصابع عبد اللاوي، يحمل الهم والفرح على ظهرٍ واحد ويدعونا لاقتسام رغيف خبز مع ألوانه المنادية بالحياة، جمالٌ بحلةٍ جديدة يبحث عن مكانٍ له وسط هذا الدمار ويبقى أثراً فوق الزّمن.»إن وراء البصيرة الفنية الحديثة، تكمن نزعة أصيلة إلى الجمال، كما هو في الواقع الصلب، وليس كما يبدو في صورته المألوفة المتغيرة بتغير العصور، إن اللوحة الفنية هي أثرٌ فوق الزمن»، هكذا قال فانتوري في كتابه «التصوير المعاصر».
بسمة شيخو