لوحات العراقي أحمد حسن الزعيم أبواب عراقية ملونة من أجل سومر وبابل
[wpcc-script type=”089f308f0088a8c3455a2694-text/javascript”]
ندخل العراق من بابٍ ملوّن، نسرح بحضارة عمرها آلاف السنين، بابٌ من صنع لوحات الفنان العراقي أحمد حسن الزعيم، مواليد بغداد 1979. يعمل مدرّساً للتربية الفنية، ويحمل دبلوماً فنيّاً من معهد الفنون الجميلة في بغداد، وبكالوريوس في الفنون التشكيلية من كلية الفنون الجميلة جامعة بغداد. له مشاركات عديدة في معارض مهمة، وقد حصل على عدد من الجوائز والشهادات التقديرية. نلجُ من بابه إلى بيت كبيوت كلّ العراقيين مليء بالحب والحياة والتفاصيل المبهجة، نعيش الحياة الحقيقيّة، نرافق العروس من «ليلة الحنّة» عنوان أحد لوحات الزعيم، يصل وهج الشّموع المضاءة داخل طبقٍ نحاسيّ واسع عند أرجل الفتيات إلينا، رائحة الحنّة تعبق في أنوفنا والبسمة تُرتسم غصباً على شفاهنا.
وليس بعيداً عن تفاصيل ليلة الحناء، رسم الوشم على أجساد الصبايا، والذي يظهر بصورة زخرفةٍ نباتية عند قدم صبية في لوحة «الدكّاكة»، والكحل، كيف يغيب عنا وعن الفنان الذي منحه عملاً خاصاً يليق بما يعطينا المرود من جمال. من أجواء تحضيرات العروس نمدّ رأسنا إلى بيتها الجديد نسترق نظرةً لتحفتها، ماكينة خياطة من ماركة singer ـ وللأمانة كنت أظن شكل هذه الماكينة الواضح بتفاصيله في لوحة «تحفة العروسة البغدادية» اختصاص نسوة دمشق.
نغادر عش الزوجيّة الآن ونسرح في بلاد الرافدين. تظنون أن كائناتها تشابه باقي الكائنات الموجودة؟ ليس كذلك طبعاً وإن أردتم أن تطّلعوا على الكائنات الرافدينية ما عليكم إلا أن تكملوا الجولة في عالم الزعيم، وتدققوا النظر في لوحات «غزلان رافدينية»، «أسود رافدينية»، «أسماك رافدينية»، «نسور رافدينيّة»، و»برمائيات رافدينية». بدون كثيرٍ من التمحيص نلاحظ ديناميكيّة حركة تلك الكائنات، ونقع أسرى المهرجان اللوني الذي تحمله أجسادها، نغبطها على حريتها فلا جاذبية تمسك بها فها هي تسبح بحريّة في فضاء اللوحة، وإن سألتم أنفسكم مثلي عن سرّ هذا التميّز لمخلوقات بلاد الرفدين يجيبكم الزعيم بأعمال أخرى يصوّر بها حضارة تلك البلاد فيرسم تمائم سومريّة ويبني أبراجاً وتماثيل بابليّة، تغويه قصص الحضارات ويرمز لعراقة العراق وأصالته بالخيل، فنرى أعمالاً كثيرة تختزل الحضارة بالأحصنة العربية كما في لوحته «صهيل الحضارات»، حيث تتكدّس الأحصنة فوق بعضها البعض في تناوب بين حصان حجري أثري وآخر من لحم ودم، وحينما تسير لوحته نحو التعبيرية نلاحظ رؤوس الخيل تختلط مع الألوان في كادر اللوحة.
يميل الفنان الزعيم إلى خلق نمط خاص به فهو يدمج الواقعية المفرطة أحياناً مع التعبيرية لتنحو أعماله منحى مميزاً بهوية وبصمة خاصة، كذلك نجد أن الزعيم يجنح نحو السريالية أحياناً ليلحق بركب ماكس إرنست وسلفادور دالي، وتظهر سرياليته بوضوح فاقع في عمله المعنون بـ «احتضار 3d»، فنرى مخلوقاتٍ غريبة: ذاك فمٌ بأيد وأرجل أحاديث فارغة تحوم حوله، وتلك عين هاربة من جسد ما، عين ضخمة وكأنها قمر صناعيّ بهيئة جديدة معدّ لمراقبة التفاصيل. أرجل ملوّنةٌ لمهرج ـ لا ينقص الواقع المرير الذي نعيشه سواه. في هذه اللوحة رمزيّة مهيبة تختصر كيف دفن الإعلام ووسائل التواصل الحديثة بعولمتها الحضارة الأصيلة، والتي يختزلها الزعيم كما ذكرنا بالخيل العربي، فهو ممدد هنا تحت تلك الأفواه والأبواق والعيون. يحتضر كما يشير الفنان في عنوان اللوحة، إلا أن التفاؤل تسلل لنفسي عندما رأيت جسده في وضع استعداد للنهوض، نهوض مؤجل ربما لكنه حاضر حتماً، نهوض سيمحو نظرة الانكسار من العيون. عن هذا العمل قالت قمر المرسومي، الفنانة التشكيلية العراقية: «يمثل هذا العمل انقلاباً في استعارات الزعيم بما ينسجم وواقع العصر بتقنيات أسلوبية جديدة طرحها الزعيم رغم كونها لم تبتعد عن تلك الأصالة في فرز الموروث الحضاري الرافديني الذي تمتد جذوره إليه. مثّل الزعيم فكرة العمل بعدة أساليب في عمل فني واحد جمع بين واقعية وجمال الخيول العربية بإمكانية فائقة بالتنفيذ، وسريالية ورمزية خوان ميرو في أيقونة المهرج، فظهر العمل نتاجاً لعمليات ممنهجة بأسلوبية فردية يتمتع بها الزعيم في طرح أفكاره الغزيرة».
والزعيم يقول عن هذا العمل: «حينما تكون اللوحة معركة كبيرة تبني وتهدم، تبني وتغير تكون مساحة المتلقي أكبر، ليشاهد ويحكم؛ المكان افتراضي، والعلاقة بين ما هو ظاهر وبين ما هو مغيّب في بنية النص تعبر عن معان نفسية وذهنية، لم أبتعد في صياغتي التشكيلية لهذا العمل عن مفردات معروفة ومدروسة من حيث الاستعارة والأداء. ويمكن أن أقول أن أسلوبي لم يكن مغايراً لما قدمته خلال مسيرتي الفنية، إنما حاولت أن أستعرض قضية فأجسد من يقود العالم إعلامياً، خارطة الطريق، والفوضى الخلّاقة، والربيع العربي والبنية المفاهيمية لنظرية الغرس الثقافي».
لوحات الزعيم ثلاثيّة الأبعاد وذلك بسبب اشتغاله على طبقات متعددة تتكدّس فوق بعضها لتخلق عملاً واحداً، ولكل طبقة جوها اللوني الخاص، وتبدو الطبقة الخلفية من الرسوم بمثابة «سفوماتو» للوحة، أي سيطرة الضبابية والمشاهد البعيدة على خلفية اللوحة، وفي الأغلب تحتوي مناظير بعيدة، زخارف هندسيّة إسلاميّة، أو أقواس تحمل حضارة سومر وبابل على متنها.
شخصيات اللوحة عند الزعيم تظهر للعين مع أول نظرة لتتلاشى بعدها وتضيع بين الخطوط والألوان الأخرى وكأن خداعاً بصرياً يصرّ عليه الزعيم ليُكسب اللوحة ديناميكيةً إضافية للديناميكيّة التي تمنحها إياها الألوان الصافية والقوية للوحاته، فأغلب اللوحات لا تخلو من لون حار يدفيء اللوحة ويحركها كاللون الأحمر والأصفر الظاهرين بقوة في أعماله.
الخطوط عند الزعيم بعيدة كلّ البعد عن العفويّة، معظمها مستقيم يملأ اللوحة بالزوايا ليشكّل فيما بعد منظوراً هندسيّاً لحارة قديمة أو زخرفة تراثية، حتى الخطوط المنحنيّة تتوضّع في اللوحة بشكلّ مدروس تتوازى مع بعضها أو تتقاطع وفق أفكار وفلسفات معيّنة يفرضها الزعيم على العمل. وعن خطوطه يقول: «للخطوط أهمية مقدسة عندي، وبالتأكيد تعتمد على نظم ثابتة ودقيقة جداً، فأنا لا أميل إلى العفوية في الخط، من الممكن أن تكون لي سياحة وجدانية لونية باللوحة أكثر من الخطوط». وبين الخطوط المدروسة والألوان القويّة واللوحة المكتظّة بالعناصر والتي لا يرتبط فيما بينها سوى روح الفنان وفكرته الناضجة التي يسعى لإيصالها. تظهر أعمال الزعيم كمغامرة ممتعة في أجواء مضيئة، فالضوء يتوزّع بانسجام على سطح العمل، يظهر بقوّة على أجساد أبطال اللوحة ويخبو في الخلفية قليلاً بعيداً عن لعبة الظلّ والنور، لا يُدرك معنى المغامرة بشكل كامل إلا عندما تتعمق بالمادة أكثر وأكثر. فالمادة هي دعامة تسند روح اللوحة وترتقي بها وخصوصاً إذا ما كانت مختلفة كالتي رسم عليها الزعيم أعماله، فهي تتنوع ما بين القماش والخشب إلى الجلد الطبيعي والنحاس ومعادن أخرى، وقد فرض تنوع هذه المواد تنوعاً في التقنيات المستخدمة، فكان إلى جانب ألوان الأكريليك والزيتي يلجأ لتقنية الحرق على الجلد الطبيعي والخشب مثلاً.
أراد الزعيم في زمن التكنولوجيا وتطور التصوير أن ينتج أشياء تعجز عن إنتاجها الكاميرا أو برامج الرسم الرقمي، وبالطبع نجح في ذلك، فاختزال هذا القدر من التاريخ والحضارة ضمن مساحات صغيرة عملٌ لا يقوى على صنعه إلا روح فنان محب وعاشق للفن أولاً، وللحضارة والتاريخ ثانياً.
بسمة شيخو