مؤتمر «صون الثقافات الموسيقية وانتقالها في عالم الإسلام» في أصيلة: الموسيقى لا تستدعي الآخر بل تذهب إليه
[wpcc-script type=”8d87343eb9b85ad32fce8394-text/javascript”]

أصيلة ـ «القدس العربي» من عبدالدائم االسلامي احتضن مركز الحسن الثاني للملتقيات الدولية في مدينة أصيلة المؤتمر الدولي الثاني لموسيقى عالَم الإسلام تحت عنوان «صون الثقافات الموسيقية وانتقالها في عالم الإسلام»، وذلك ضمن فعاليات الموسم الثقافي الدولي في أصيلة في دورته الأربعين. أعدّ لهذا المؤتمر وترأس أشغاله شريف الخزندار، رئيس دار ثقافات العالَم بباريس، وشاركت فيه مجموعة من الفنانين والموسيقولوجيّين من دول عربية وأجنبية. واستهدف هذا المؤتمر في جلساته العلمية الأربع البحث في إشكاليات الحفاظ على الثقافات الموسيقية في عالَم الإسلام وسبل انتقالها بين الشعوب، ودراسة الوصلات الموسيقية الحميمة واليومية اعتمادا على نماذج من أغاني المهد التي لم تتمّ دراستها بالشكل الكافي، وإشكالية الأساليب الموسيقية والإبداع الموسيقي في ظروف الهجرة واللجوء التي يشهدها عالَمنا اليوم، وكيف يمكن لثقافة موسيقية هاجرت مع ممارسيها أن تنفتح على ثقافات موسيقية أخرى مع الاحتفاظ بهُويتها الأصلية.
الذّات في الموسيقى
لعلّ من فضائل ما بعد الحداثة، بعد أن كشفت عن أفول ما يُسمّى السرديات الكبرى المتصلة بحياة الجماعات، هو تشديدها على العودة إلى التفكير في الفرد من حيث هو ذات مقذوف بها في العالَم، بمعنى دراسة الفرد في تفاصيل يوميه، والبحث عمّا يقبع في هامش معيشه، وفي كلّ ما هو منسيّ فيه. ويبدو أن في الموسيقى ما يوفّر مجالا للبحث في منسيّات الذات الفردية، وفي أسئلتها التي تصوغها أغان وترنيمات لمواجهة الخارج. ذلك أنه توجد مدوَّنة موسيقية كبرى مبثوثة في مناسبات الفرد اليومية لم يقع الالتفات إليها علميًّا بالبحث والدراسة والتدوين، وهذا ما انعقدت حوله جهودُ مداخلات بعض الموسيقيّين في هذا المؤتمر، حيث تمّ التطرّق إلى ضرورة التنبّه إلى ذاك النوع من الموسيقى الذي تحضر فيه الذّات بقوّة وتبوح فيه بشجونها على غرار ترانيم الأمهات لإنامة الأطفال، وموسيقا الميلاد والزواج والجنائز. وهي كلّها أنماط غنائية محمولة في صدور الناس، وحاملة لمشاعر جوّانية بقدر ما تخصّ صاحبها تستدعي الآخر إليه وتحاوره، وهي غالبا ما نعيشها ولكننا لا نحفل ببنيتها الفنية والنفسية والاجتماعية، ومن ثمَّ ظلت تلك الموسيقى فنًّا هامشيًّا ومنسيًّا من قِبل النظام الموسيقي الرسميّ، والحال أنه يمكن لها أن تُمثّل مجالا ثرَّ الدّلالات متى تمّ تدوينها وصونها وتكثيف البحث فيها، لأنها في الغالب الأعمّ تعبيرات يلوذ بها الإنسان سبيلا إلى التخفيف من إحساسه بالعزلة في هذا الكون الضخم، وإلى صون هويّته الفرديّة من الذّبول والانمحاء.
وقد انصبّ اهتمام مداخلة الباحث باسكال كورديريكس، رئيس قسم الوثائق الصوتية بالمكتبة الوطنية في فرنسا، تقديم بعض المقترحات والتفاصيل حول صون هذه الأنماط الموسيقية، ورقمنتها، وضرورة تكاتف الجهود لإحداث أرشيف رقمي مشترك لموسيقى عالَم الإسلام بوصفها تراثا إنسانيا مشترَكًا. وذكَّر في هذا الشأن بوجود محاولات هامّة لتدوين هذه الموسيقى في العالم العربي على غرار ما قامت به مؤسسة «أمار» في لبنان، وراديو بودكاس «روضة البلابل»، إضافة إلى المعرض الصوتي لمؤسسة «همبولدت» ببرلين، والخزانة الصوتية الوطنية بتونس، ومركز التراث الموسيقي باليمن. وقد تمّت هذه الجهود بفعل توصيات مؤتمر القاهرة الأول للموسيقى العربية الذي انعقد عام 1932 لتدارس وضع الموسيقى العربية آنذاك وكان تحت رعاية الملك فؤاد، وحضره موسيقيون من مصر والشام وتركيا وبعض المندوبين الأوروبيين، وكان الهدف منه الحفاظ على التراث الموسيقي والغنائي العربي الإسلامي، خصوصا بعد وفاة أعلامه الكبار مثل يوسف المنيلاوي عام 1911 وسيد درويش عام 1923.
الموسيقى المُهاجرة
لم تعد الموسيقى تستدعي الآخر وإنما هي التي تذهب إليه، هكذا قال الباحث البريطاني مارتن ستوكس، رئيس كلية الملك إدوارد للموسيقى، ومدير سابق لمركز الموسيقى الإثنولوجية بجامعة شيكاغو. وأضاف تأكيدَه أنّ العالَم الآن يشهد تدفّقات هجريّة كبيرة مصحوبة بتدفّق الأفكار والهُويّات. ورأى أنّ أوروبا قد مثّلت منذ بدايات القرن الماضي، وتمثّل الآن، مكان لجوء المبدعين والفنانين الهاربين من الحرب والإبادة والدكتاتورية، حيث وفّرت لهؤلاء منابر وفضاءات حرّة لنشر إبداعهم وموسيقاهم وأفكارهم، واحترمت فيهم أيديولوجياتهم. غير أن الموسيقى وحدها هي التي ظلّت تقاوم الانفعالات السياسية بين الشرق والغرب منذ حملة نابليون إلى الآن، لأنها بلا حمولة أيديولوجية، وصافية من كلّ شيء إلاّ من إنسانيتها وكونيتها. ودلّل مارتن ستوكس على ذلك بقوله إنّ أفضل تسجيلات الموسيقى الشرقية (إيران، لبنان، سوريا، العراق) قد تمّ إنتاجها في الغرب. وقد راهن الغرب على موسيقى العالَم الإسلامي، لأنها حين تهاجر تحافظ على هُويتها الإسلامية ولكنها تتخفّف من حمولاتها السياسية، بل وتتخلّى عن إكراهات ثقافتها الجغرافية لتُعانق الأفق الكوني الخارق للهويات (أكبر الفرق الموسيقية الناشطة في الغرب تجمع بين عناصرها فنانين من تركيا وإيران وأفغانستان والعراق ولبنان وسوريا)، وربما بسبب ذلك كله صارت موسيقى لطيفة، وتخلّصت من نزوعها الحَنينيِّ التَّحْزينيّ، وانفتحت على واقع الشارع الغربيّ، وهو ما جعلها تتحوّل إلى موسيقى مرحة، وراقصة. وأشاد هذا الباحث بدور الموسيقى الشرقية في تطعيم موسيقا العالم الغربي، واعتبرها قد حقّقت ما عجز عن تحقيقه السياسيّون، خاصة في مجالات التسامح، وحوار الهويات، ونبذ العنف.
أما أنيس فارجي، وهو باحث موسيقى في مركز جاك بيرك (CNRS) بباريس، فقد حلّل في مداخلته علاقة الموسيقى بالغيريّة. ذلك أنه ذهب إلى القول إنّ كلّ موسيقى إنّما هي ذاتية، لها هويّة، ولأنها ذاتية فهي محتاجة إلى الآخر ليسمعها ويتواصل معها، إنها تستدعي الآخر لترى نفسها فيه، ولتقدِّر مدى بلوغها مرقى ذوقه الفني، ومن ثمّ فإنه بالإمكان الإعرابُ عن الذاتية الموسيقيّة، كأن نقول هذه موسيقى شرقيّة، وتلك موسيقى غربية، غير أنّ ذاك الانتماء يبقى صفة خارجيّة، أي لا يخترق جسد اللحن، فاللحن إنسانيّ بطبعه. وقد اُختتم هذا الملتقى بسهرة فنية أحياها العازفان المغربي إدريس الملومي والسورية وعد بوحسّون.