ما بين «ثلاثية» سميح أوغلو و«طريق» يلماظ غونيه… محاولات الخلاص الفردي والتحرر الاجتماعي

القاهرة ـ «القدس العربي»: من التجارب الهامة في السينما التركية، نجد أعمال «يلماظ غونيه»، الذي لم تنفصل حياته وصراعاته عن طبيعة هذه الأعمال، والتي كان لها ثقل في تاريخ السينما العالمية.

ما بين «ثلاثية» سميح أوغلو و«طريق» يلماظ غونيه… محاولات الخلاص الفردي والتحرر الاجتماعي

[wpcc-script type=”133391196a9dd9201ea72b8c-text/javascript”]

القاهرة ـ «القدس العربي»: من التجارب الهامة في السينما التركية، نجد أعمال «يلماظ غونيه»، الذي لم تنفصل حياته وصراعاته عن طبيعة هذه الأعمال، والتي كان لها ثقل في تاريخ السينما العالمية.
ظل غونيه يبحث آثار السلطة وتداعياتها، بداية من السلطة السياسية وحتى سلطة الأعراف والتقاليد، التي يصبح الإنسان في النهاية هو ضحيتها المؤكدة. يقابل هذه التجربة، تجربة أخرى للمخرج «سميح أوغلو»، والذي أصبح يبحث عن خلاص الإنسان وتحرره، ليبدو الأمر مختلفاً، فيتمثل صراعاً لتحقق هذه الذات، والسبيل إلى ذلك. فكرة الرحلة تجمع بين العملين ــ طريق غونيه وثلاثية أوغلو ــ وبينما تنجح الثلاثية في تحقيق النجاة لصاحبها، رغم ثمن ذلك، يميل «الطريق» إلى خسارة أبطاله في الواقع، وهو ما يتفق وفكر غونيه، فرغم الخسارة، إلا أن الفيلم تحريضياً وثورة ضد جميع أشكال الاضطهاد، من مؤسسة عقاب، وعلاقات اجتماعية أكثر قسوة.

ثلاثية الروح

ثلاثية «أوغلو» المُسماة بـ «ثلاثية الروح». تبدأ بفيلم «بيض»، ثم «حليب»، وأخيراً «عسل». والثلاثية تستعرض حياة «يوسف» في مراحل عُمره المختلفة، الكهولة، الشباب والطفولة. ومدى التناغم ما بين هذه المراحل والطبيعة نفسها، حيث علاقة يوسف ببيئته وأسرته وتصوراته عن الحياة وصراعاتها. العمل فلسفي أكثر منه سرد لحكاية شخص ما، وبالتالي من الممكن إسقاط هذه الحياة على وعي المُشاهِد، حتى أنه من الممكن أن يُعيد النظر في تفاصيل حياته وفق الحالة التي يصيغها الفيلم في حِرفية شديدة.
يبدأ «أوغلو» ثلاثيته بـ «يوسف» الكهل، وينتهي به طفلاً، وهي رحلة عكسية قام بها بطل الفيلم، ليحاول اكتشاف نفسه. إرهاصة للمُشاهِد حتى يسير مع يوسف في رحلته نفسها، وقد تورّط رغماً عنه في رحلة استسلم لها تماماً. السرد العكسي هذا جعل الفيلم عبارة عن أسئلة حياتية دائمة، لا يأتي تفسير بعضها إلا في النهاية، وهذا ما يوحي بأن السيناريو قد تمت كتابته واكتملت قبل تنفيذ الأجزاء الثلاثة، التي بدأت في العام 2007، وانتهت عام 2010.

يوسف كهلاً

يبدأ الفيلم بـ «يوسف» وقد تعدّى الثلاثين، يعود إلى قريته في ريف تركيا، حيث الطبيعة وبساطة الحياة، الحياة التي هجرها إلى اسطنبول/المدينة ليحقق حلمه في أن يكون شاعراً شهيراً، تتردد قصائده على الألسن. يعود يوسف عقب اتصال هاتفي يُخبره بجنازة أمه، وبعد انتهاء مراسمها، تخبره فتاة كانت تجالس أمه قبل موتها بوصيتها، بأن يقوم بذبح شاة، ورغم استغراب يوسف لهذه الوصية، إلا أنه يمد إقامته في القرية حتى يُنفذها، ويستمع إلى الفتاة التي تردد بعض أبيات من قصيدة شهيرة له، يميل يوسف إلى الفتاة، ولكن ميعاد رحيله آن، ليتركها ويمضي في طريق عودته، إلا أنه يعود في لحظاته الأخيرة، ويصل إلى بيت طفولته ليجد الفتاة وقد جاءت ببعض «البيض» حيث تأخرت الدجاجات لعدة أيام، واليوم فقط أنتجت بيضاً رائعاً. كان هناك حلماً يراود يوسف دوماً بأنه يسير مُمسكاً بالعديد من البيض، إلا أنه يسقط منه في النهاية.

يوسف مراهقاً

في الجزء الثاني المُسمى «حليب» يستعرض «أوغلو» مراهقة يوسف، وحياته مع أمه، التي تقوم بحلب الأغنام، بينما يقوم هو ببيعها في مشارف المدينة وبين أهل القرية. يوسف الذي لا يجد في هذا العمل أي فائدة سوى مساعدة أمه، ويعلوه الضيق دوماً ويحلم بكتابة القصائد، ويحاول أن يقوم بنشرها في الجرائد. الحياة هنا بين يوسف وأمه، أما الأب فهو غائب على الدوام، ولم تأت سيرته، أو حتى الإشارة إلى مصيره. ينتهي هذا الجزء بمحاولات يوسف المستميتة في الوصل إلى المدينة عن طريق أشعاره. بروحه المفارقة للمكان، دون جسده الذي ينتظر بفارغ صبر.

يوسف طفلاً

«عسل» هو الجزء الأخير من «ثلاثية الروح» وفيها يستعرض المخرج طفولة يوسف، ويُجيب على بعض الأسئلة المُعلقة في الجزئين السابقين. فمعاناة يوسف هنا لها شكل آخر، فهو الطفل الصامت على الدوام، المُتناغم مع الطبيعة، والمُستمع لأصواتها، وهو الأمر الذي أدى به إلى حب الشعر ــ صوت الطبيعة الغامض ــ واحترافه بعد ذلك، حتى أصبح أشهر شعراء مدينته، التي سيحلم بعد ذلك بالذهاب إليها. يوسف يُعاني من (الثأثأة). فهو لا يمتلك سوى مراقبه الأطفال في المدرسة، دون القدرة على مُشاركتهم اللعب، ولا يتحاور سوى هامساً مع والده، الذي يقوم بجلب العسل، والبحث عن مكامنه ومكامن النحل، الذي يهجر القرية، فيفر الرجل خلفه، ويغيب. يبدأ الفيلم بمشهد ليوسف مع أبيه، الذي سقط به فرع شجرة، وتعلق به الرجل دون أن يسقط في اللحظة الأخيرة، ويوسف ينظر إليه. وعندما يتغلب يوسف بالفعل على عاهته (الثأثأة) ويعود إلى البيت فرحاً لتشجيع المدرس له، يجد العديد من أهل القرية يتجمعون أمام البيت، ليعرف بأن والده قد مات. ليصبح المشهد الافتتاحي هو حلم رآه يوسف، وأن الرجل قد سقط بالفعل ميتاً، وما تعلقه بفرع الشجرة إلا لحظة زمنية متوقفه في وعي يوسف، حسب منطق الحلم، أو الرؤيا بالمفهوم الديني، الذي يغلف الحكاية بالكامل. وما يؤكد ذلك هو ذهاب يوسف في النهاية إلى الغابة، مُستند إلى إحدى الأشجار، ويُغمض عيناه لتستمر أحلامه أو رؤياه.

رحلة طويلة مُجهِدَة

الثلاثية عموماً عبارة عن رحلة مُجهِدَة للبحث عن خفايا النفس، تقلباتها وأمنياتها، وأفعالها التي تؤثر في مجرى الحياة بالكامل. ففعل ما، أو اختيار ما، حتى لو كان بسيطاً سيكون له أعظم الأثر في الحياة، التي تتكرر وتيرتها حسب نتائج هذا الفعل أو ذاك.
ففكرة نذر الأم بذبح شاة بعد موتها، وقيام يوسف بذلك ليقطع صِلته تماماً بالقرية، حيث لم يعد ينتمي إليها، وقد فارقتها أمه، بعدما فارق أبيه الحياة، وتتركه الأم بهذا الفعل الأخير/القربان، ليتحلل من الوعد الثقيل بالعودة، في ظِل هذا الفعل الذي طالما تمناه يوسف، وحلم به (الذهاب إلى المدينة) فإذ به يعود إلى البيت مرّة أخرى بإرادة حرّة تماماً، ويظل بجوار الفتاة التي أحبها، الفتاة التي تحفظ في قلبها بعض من أبيات أشعاره، وتنطقها في سلاسة وروعة، لم يعرفها يوسف من قبل، وقد عاني طفولته بالكامل من التلعثم والثأثأة، لقد وجد مَن يفهمه ويتحاور معه بلغته، فاستقر في هذا العالم، وترك صخب المدينة الوهمي، لكن … كان لابد له من خوض التجربة، فالبيض الذي سقط منه في الحلم، ها هو الآن في شكل رائع أمامه، تضعه الفتاة بيدها في رفق شديد. وما رحلة البحث عن العسل، التي فقد والده على إثرها، واستنام يوسف الطفل جذع الشجرة بعدها في ملامح توحي بالسلام والهدوء الشديد، ما هي إلا تتويجاً معكوساً لتذوق طعم هذا العسل بعد رحلة شاقة وطويلة من العذابات الحياتية، أملاً في هدوء الروح وراحة البال. العديد والعديد من الرموز التي يمكن تفسيرها حسب حالة وروح كل مَن يُشاهد الفيلم، فلا توجد إجابات مباشرة على أسئلة مُفترضة، لكنها حالة شعورية كالقصائد، غامضة وحمّالة أوجه.

طريق غونيه

فيلم «الطريق/YOL» وهو الفيلم الأشهر للمخرج التركي، الكردي الأصل «يلماظ غونيه» 1937 ــ 1984 والذي حصل به على سعفة مهرجان كان في العام 1982، مناصفة مع فيلم المفقود لغوستا غافراس. لم تكن رحلة «غونيه» هينة، خاصة وأن فيلمه (الطريق) تم تنفيذه بالكامل ومُخرجه بالسجن، فالمخرج كان يكتب قصاصاته الورقية، وبها أدق التفاصيل عن الأماكن وحركة الممثلين والكاميرا، وشكل الإضاءة، وحتى العدسة المُستخدمه. فإنجاز عمل مثل الطريق بهذه الطريقة يُعد معجزة في ذاته، تكاد تقارب حياة صاحبه. غونيه الذي ظل يقلق النظام التركي، ويعيش في سجونه ــ حوالي 11 عام ــ حتى أن مجموع الأحكام الغيابية الصادره بحقه تجاوزت المائة عام! هذا النظام رغم اختلافه الشكلي مع مرور الزمن، إلا أنه لم يُفرج عن الفيلم إلا في عام 1999.

الرحلة

لم يكن السجن سوى أسوار مرتفعة، وشكل باهت لمخلوقات منسيّة، تحمل ملامحها أسىً لا يُحتمل. الحكاية لم تكن عن هذه السجون ولا عما يحدث داخلها، بل تمتد لتشمل حالة عامة من الإحساس بالسجن، لا تحده أسوار، حالة اجتماعية أكثر منها عقاباً فردياً، سُلطة حاكمة تقهر هؤلاء بشتى الطرق. هناك بعض السجناء يُطلق سراحهم لمدة أسبوع، نظراً لحُكم الإفراج النهائي عنهم قريباً، وهذا الأسبوع يقع تحت مُسمى الإفراج الشرطي، حتى يعتادون على الحياة خارج السجن، وكأنه اختبار للحياة في الخارج.
عن طريق هؤلاء يتم استعراض الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية المتردية، والتي هي السبب الرئيسي في العديد من الجرائم التي ارتكبها هؤلاء، وما خروجهم إلا فرصة أخرى لارتكابهم المزيد من الجرائم رغماً عنهم. فهناك المفارقة الدائمة بين فئة الأتراك والكرد، أساليب المعيشة، بداية من الملابس والطرق والبيوت ونوع الطعام، حياة بالكامل تتمايز بها فئة عن أخرى.

الأعراف والتقاليد البالية

واختبار الحياة هذا يخوضه … أحدهم يفقد أوراقه بمجرد قطعه مسافة بسيطة خارج السجن، فيتم إيقافه ويعود إلى السجن من جديد، وتتبخر فرصته في زيارة القرية ولقاء خطيبته. والآخر يعود إلى قريته الجبلية البعيدة، ليجد زوجته مُقيده بالسلاسل، وقد حبسها أهلها لخيانتها، والجميع في انتظار عودته، حتى يقرر مصيرها، حسب التقاليد. وثالث يحلم بالعودة إلى قريته الواقعة على الحدود التركية السورية، وعند وصوله لا يجد سوى منازل القرية التي تطولها نيران الهجمات العسكرية التركية المستمرة. وأخير يجد الكثير من المشكلات في انتظاره، كسجن أفراد عائلته لارتكابهم جريمة سرقة، فتحمّله العائلة تبعات كل هذه المصائب، بحجة ابتعاده عنهم، بحجة كونه الأخ الأكبر، وعليه وفق الأعراف والتقاليد أن يتحمل مسؤولية الجميع.

حلم العودة

هؤلاء في بداية خروجهم فكر معظمهم في الهرب، وعدم العودة مرّة أخرى، لكنهم لم يتحملو الحياة خارج أسوار السجن، وبعضهم تمنى اللحظة التي يعود فيها إلى هذه الأسوار. فالسجن مقارنة بالحياة خارجه هو الجنة، أما هؤلاء الذين يظنون أنفسهم أحراراً، فهم يعيشون في وهم كبير. مجتمع مريض وعاجز، يستخدم الفقراء لتحقيق سعادة فئة صغيرة، هي التي تحكم وتتحكم في الجميع.
والأمر اللافت هنا أن «غونيه» وإن جعل فئة الأكراد هي الفئة المغضوب عليها من الجميع، إلا أنه أشار لعوامل الاستعباد هذه، والتي تتماس مع حالة معظم الفئات المقهورة، والتي يتم استغلالها وتحميلها خطايا أي نظام سياسي، خاصة حينما تستهويه حالة التخلف الاقتصادي والاجتماعي المتردية، والتي يجاهد هذا النظام لجعلها أسوأ، حتى تتحمل هذه الفئة أوزاره عن طيب خاطر، وتشك في نفسها بأن سلوكها هذا محكوم عليه من قبل وجودهم بالحياة، بأن مصيرهم جميعاً هو السجن، سواء كان محاطاً بأسوار وحرّاس، أو تحده الجبال والأنهار، ليصبح دولة بالكامل.

محمد عبد الرحيم

Source: alghad.com

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *