«ما وراء الوجوه» لأندريه شديد: الفقد سمة الحياة والانتظار لعبة للتحايل عليها

القاهرة ـ «القدس العربي»:«لقد كنا أنا وأنت نتوجه إلى السماء بالحمد، لكن إلهينا لم يكن لهما الاسم نفسه. لقد تساءلتُ في ما بعد بشأن هذه المعتقدات وقرأت بعض الكتب، وشيئاً فشيئاً وجدت نفسي أتساءل، أليس وراء هذه الآلهة حقيقة واحدة من اليقين والرحمة؟ لكنني لم أجرؤ على الخوض في مثل هذا الحديث، حتى لا أشيع الفوضى حولي. فلقد مرّت قرون كثيرة حفرت في عروقهم المعتقدات الدينية ذاتها. إنك بلا شك قد تتفق معي في هذا الرأي». (من حكاية إلى يوم ما أيها الصديق).

«ما وراء الوجوه» لأندريه شديد: الفقد سمة الحياة والانتظار لعبة للتحايل عليها

[wpcc-script type=”7e76112947ba612015cc754e-text/javascript”]

القاهرة ـ «القدس العربي»:«لقد كنا أنا وأنت نتوجه إلى السماء بالحمد، لكن إلهينا لم يكن لهما الاسم نفسه. لقد تساءلتُ في ما بعد بشأن هذه المعتقدات وقرأت بعض الكتب، وشيئاً فشيئاً وجدت نفسي أتساءل، أليس وراء هذه الآلهة حقيقة واحدة من اليقين والرحمة؟ لكنني لم أجرؤ على الخوض في مثل هذا الحديث، حتى لا أشيع الفوضى حولي. فلقد مرّت قرون كثيرة حفرت في عروقهم المعتقدات الدينية ذاتها. إنك بلا شك قد تتفق معي في هذا الرأي». (من حكاية إلى يوم ما أيها الصديق).
«أريد أن أبقي عينيّ مفتوحتين على آلام الناس، على شراسة العالم». هكذا كتبت ذات يوم الشاعرة والروائية أندريه شديد (1920 ــ 2011). هذه الآلام التي جسدتها شديد في معظم أعمالها، وكأنها تبحث عن حيوات أشخاص تتنفس معاناتها، من امرأة تفقد حفيدها كما في روايتها «اليوم السادس»، إلى رجل لم يعد لديه يقين سوى في استخراج جسد شاب لا يعرفه من تحت الأنقاض نتيجة زلزال، كما في رواية «الآخر». أفعال قدرية تجعل الإنسان حائراً ماذا سيفعل في مواجهتها، لكنه يحاول التعايش أو يتخذ قراره الأقوى فيواجه الحياة بمفارقتها. في مجموعتها القصصية «ما وراء الوجوه» الصادرة بالفرنسية في عام 1978 (ترجمتها إلى العربية للمرّة الأولى العام الفائت سلوى عزوز، وراجعتها سلوى لطفي)، 8 حكايات ترسم من خلالها أندريه شديد قسوة هذا العالم على شخصياتها، من دون افتعال صاخب، فقط حالات الفقد العرضي، شخصاً كان أو تاريخاً ذاتياً، أو مفارقة مكان. الأمر يخص الذكريات بالأساس، فإن فقدتها أصبحت لا شيء ــ عانت شديد في أيامها الأخيرة من الزهايمر ــ هذا الحزن الهادئ والقاسي قد تصبح السُلطة إحدى روافده، لكنه بشكل مجاني وغير مقصود، ومن هنا تأتي المفارقة والسخرية الأليمة، وما من شيء إلا التحايل بالانتظار أو الرحيل في هدوء. والحكايات بالترتيب.. «الوشاح، موت الحمّال، إلى يوم ما أيها الصديق، الشارع الكبير، عشاء عائلي، الصبر الطويل، عنزة لبنان، ونهوض الطفلة».
كما في الشخصية الرئيسة «أم حسن» في رواية اليوم السادس، تبدو أم خليل، التي تتوارد حكايتها من خلال موقفين تجسدا في الوشاح والشارع الكبير. أم خليل تنتظر وحيدها الشاب، الذي يعمل بالتجارة خارج حدود البلدة، ودائماً ما يعد بالزيارة، والمؤكد أنه يخلف وعده. القرية تنتظر، والمرأة تزيّن البيت، فسيأتي الولد، واليوم عيد، هنا سيجلس، هنا سيُلقي مزحاته الساخرة، وهنا ستسير بجواره كظل يحجبها عن عيون أهل القرية الشامتة. وسيرتدي هذا الوشاح الذي شغلته خلسه عن أعين الجميع، لكن لم يأت الولد كما تقول، وبعد خذلان وخوف من مواجهة جيرانها، تضيء الأنوار، وتفتح أبوابها، وترتدي الوشاح صبيحة العيد، فقد أتى وأحضر لها هذه الهدية. هكذا تتحايل المرأة ليس على الآخرين، ولكن على قلبها. النساء الوحيدات دوماً مذكورات في عالم أندريه شديد. وتستمر المرأة في الحكاية الأخرى، ولكن يبدو أنها ستلعب مع الحياة بشكل مختلف، الحكومة تقوم بتوسعة الشارع، ولابد من هدم المنزل، وحفيدها يبدو في غاية السعادة، فسيذهبون إلى منازل أخرى، وسوف يكون الشارع صالحاً للعب، وبينما ترفض المرأة مغادرة منزلها، حيث الذكريات والوجود، ترى فرحة الطفل، وتختار أن تموت ليتم إخلاء البيت في سلام، بينما ابتسامة الحفيد هي آخر ما طالعتها.
هل تستطيع فلاحة بسيطة أن تواجه أحد أولياء الله؟ هكذا فعلت أمينة ــ الشخصية الوحيدة التي استطاعت المواجهة في حسم ــ فها هي بين أطفالها التسعة، وها هو أخيراً جاء لزيارة بيتها الشيخ عثمان، الرجل المبروك، لكن أن يدعو لها بأن الله سيهبها سبعة أطفال آخرين، فلابد من مقاومته. المفارقة هنا أن أمينة تثق تماماً في دعوة الشيخ، لهذا ارتعبت وأصرت على أن يسحبها أو يدعو بغيرها، لكن الرجل أصر بدوره، وأنه لا يجوز. أمينة التي تؤمن بمقولاته وترفضها الآن. لتتصاعد الأحداث، ويتجمّع أهالي القرية بين صراخ المرأة وتوبيخ الشيخ لها، وبمجرد أن وافقها زوجها، ادّعى الشيخ أنهما يرفضان قضاء الله «اطردوهما، إنهما يدنسان هذا المكان»، لكن القرية تريد أن تعيش، وهذه الدعوة فيها الهلاك للجميع، فقاموا بضرب الشيخ حتى كاد أن يُفارق الحياة.
هناك رغم اختلاف الحكايات حالة من الأسى تحيط بالشخصيات، الباحث عن صديقه يعقوب «إلى يوم ما أيها الصديق»، الذي ترك مصر بعد أحداث يوليو/تموز 1952، والذي يلمح شبيهاً له وينتظره أسفل إحدى البنايات، ويغفو، فيهبط يعقوب ويظن أن النائم قد فارق الحياة، ولكن تذكارا قديما يعود بهذه الذكرى مرّة أخرى. وفي «عشاء عائلي» يبدو مندوب المبيعات المنبهر بابنه المصرفي ومستقبله، وها هو يستعد لتصفيف شعره، حتى يتسنى له حضور مناسبة التعارف بين أهل عروس الابن، من خلال دعوة على العشاء، لكن المُصفف يقوم بقص شعر الرجل على الموضة، وبينما يعنف ابنه على فعلته، لا يجد الرجل سوى العودة إلى المصفف الذي عامله كصديق قديم، وأن يتناولا معاً الطعام. وهكذا الحكايات.. فالشخصيات بالإمكان مقابلتها في الشارع أو المقهى، لكن عوالمها تبدو في غاية الإحساس الشعري، وجهة نظر الشخصيات، رؤيتها وتفسيرها لما يحدث. هكذا ترسم أندريه شديد ما وراء هذه الملامح/الوجوه، كما أطلقت على مجموعة حكاياتها.
من مواليد القاهرة عام 1920، لبنانية الأصل، درست في القاهرة واستقرت في باريس منذ عام 1946. من دواوينها الشعرية.. «نصوص لوجه» 1949، «نصوص للقصيدة» 1950، «نصوص للحي» 1952، «نصوص للأرض الحبيبة» 1955، «أرض الشعر» 1960، «أخوة الكلام» 1976. ومن أشهر رواياتها.. «النوم الخاطف» 1952، «اليوم السادس» 1960، التي تحولت إلى فيلم سينمائي أخرجه يوسف شاهين عام 1986، ورواية «الآخر» 1969، التي تحولت لفيلم أخرجه الفرنسي برنار جيرودو عام 1991. كما نالت العديد من الجوائز منها، جائزة لويز لابيه 1966، جائزة النسر الذهبي للشعر 1972، الجائزة الكبرى للأدب الفرنسي من الأكاديمية الملكية في بلجيكا 1975، جائزة أفريقيا المتوسطة 1975، جائزة جونكور للرواية 1979 عن كتابها «الجسد والزمن»، إضافة إلى منحها وسام الشرف الفرنسي.
الكتاب: «ما وراء الوجوه»
المؤلفة: أندريه شديد
ترجمة: سلوى عزوز، ومراجعة سلوى لطفي.
إصدارات: المركز القومي للترجمة، القاهرة 2015.
عدد الصفحات: 87 صفحة من القطع الكبير.

«ما وراء الوجوه» لأندريه شديد: الفقد سمة الحياة والانتظار لعبة للتحايل عليها

محمد عبد الرحيم

Source: alghad.com

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *