متحف «كفافيس» في الاسكندرية: الشاعر الخالد رغماً عنه!
[wpcc-script type=”5611e4ac6cffeeb209adb40b-text/javascript”]
القاهرة -«القدس العربي»: «ليس أفضل من هذا المنزل الذي أعيش فيه، في الأسفل شقة مواعدة تعالج ضرورات الجسد، وأمامي تقع الكنيسة حيث تُغتفر الخطايا، وأبعد قليلاً توجد المستشفى حيث نقضي». (كفافيس)
في أحد شوارع مدينة الاسكندرية، تحديدا في شارع النبي دانيال الشهير، خلف مسرح سيد درويش، يقع منزل ومتحف الشاعر اليوناني الكبير كوستيس بتروس فوتياديس كفافيس الشهير باسم «قسطنطين كفافيس» الذي عاش وتوفي في مدينة الاسكندرية التي خلد ذكراها في العديد من قصائده، إن لم يكن أغلبها.
أثناء البحث عن المنزل في الشوارع الجانبية للشارع الرئيسي ــ «شارع النبي دانيال» ــ تعمدت السؤال عن المكان دون تفاصيله، ليقتصر السؤال فقط عن «متحف كفافيس»، وخاب ظني لأجد الكثيرين من أهل الاسكندرية يعرفون المكان من مجرد الاسم ومن دون تفاصيل العنوان، بداية من محطة القطار وحتى الشارع نفسه، كما تعمدت أن أوجه السؤال إلى مختلف الأعمار والفئات الاجتماعية، وسرتني النتيجة كثيراً، حيث القليل من هذه العينة العشوائية سألني عن تفاصيل العنوان، وإن لم يبد جهلاً باسم الشاعر العظيم!
كفافيس
ولد كفافيس في التاسع والعشرين من شهر نيسان/إبريل عام 1863 في شارع شريف باشا ــ «صلاح سالم حالياً» ــ لأب يوناني وأم ذات أصول تركية، وكان الطفل الأخير من تسعة أبناء في هذه الأسرة، التي عاشت لفترة طويلة في مدينة الاسكندرية، حيث كان الأب تاجراً شديد الثراء، ويُقال إنه أول من أدخل صناعة حلج القطن إلى مصر، وكان له مصنع في مدينة كفر الزيات ومتاجر أخرى في مدينة مينا البصل، ومكتب للحاصلات الزراعية في منطقة زيزينيا بالاسكندرية. كانت الأسرة الثرية صديقة للخديوي «إسماعيل» حاكم مصر آنذاك، إلى درجة توجيه الدعوة للأب لحضور حفل افتتاح قناة السويس، وإهدائه «الوسام المجيدي» في عام 1869. ونظرا لحياة الترف التي كان يعيشها الأب، غير مكترث بما قد تؤول إليه الأمور، أو ما قد يأتي به المستقبل، بدأت الأسرة تفقد ثروتها شيئا فشيئا من دون أي محاولة من الأب لتغيير نمط حياته التي تتسم بالبذخ والكرم الشديدين، إلى أن مات في عام 1870 ولم يكن قد ترك لهم شيئا، وكان كفافيس وقتها قد بلغ السابعة من عمره.
السفر والعودة
بعد عامين من وفاة الأب اضطرت الأم إلى السفر إلى إنكلترا بأبنائها، وبعد مرور سبع سنوات قضتها الأم والأبناء في مدينة ليفربول الإنكليزية، عادت إلى محطة الرمل في الاسكندرية مرة أخرى يصحبها كفافيس واثنان من أخوته، بينما فضل باقي الأخوة البقاء في إنكلترا. لكن سرعان ما وقع الإحتلال البريطاني لمصر بعد العودة بثلاث سنوات فقط عام 1882، ونظراً لمساعدة بعض البوارج الحربية اليونانية للجيش البريطاني، ومشاركته في قصف مدينة الاسكندرية، ثارت الضغينة بين المصريين واليونانيين في المدينة، مما اضطر الأم إلى السفر مرة أخرى بصحبة الأبناء الثلاثة إلى تركيا، حيث تعيش أسرتها الثرية، فقد كان والدها يعمل في صياغة المشغولات الألماسية، ليستقيم لهم الأمر لثلاث سنوات أُخر، قبل أن يعودوا إلى الاسكندرية من جديد!
كفافيس الشاب
عاد كفافيس إلى الاسكندرية مصطحباً في عقله ووجدانه خمس لغات، إلى جانب اللغة العربية، وبعد خمس سنوات من عودته استطاع الحصول على وظيفة متواضعة في مكتب وزارة الري المصرية في مدينة الاسكندرية عام 1889 وتفاجأ مديره في العمل بإجادته لخمس لغات، ليوكل إليه العمل كمترجم، من دون أي قيود وظيفية، مقابل إنهاء العمل بالشكل اللائق، مما أعطى الحرية لكفافيس لمتابعة هوايته في كتابة الشعر، والعمل كسمسار في بورصة القطن المصرية بالاسكندرية، واستمر في الوظيفة لنحو ثلاثين عاما.
نشر كفافيس العديد من المقالات النقدية والمتنوعة في العديد من الدوريات الصادرة في الاسكندرية وأثينا واسطنبول وبعض العواصم الأوروبية الأخرى، وإن كان حريصاً على أن يظل الشاعر داخله مختفيا عن العيون قدر الإمكان، معتبراً كتابته للشعر هواية لا يبتغي من ورائها مالا أو شهرة، وكان يحرص على مراجعة ما يكتب والتخلص من معظمه نتيجة عن عدم الشعور بالرضاء، مكتفيا بنسخ القليل مما يكتبه يدوياً كي يقرأه القليل من الأصدقاء والمعجبين، ليعترف شخصياً بكتابته لمئة وأربع وخمسين قصيدة، إحداها باللغة الإيطالية.
عمد كفافيس إلى نشر كتيب صغير يحتوي على أربع عشرة قصيدة في عام 1904 ثم أعاد نشرها مرة أخرى مضيفاً إليها سبع قصائد جديدة في عام 1910. ومن كثرة ما أجراه الشاعر من تعديلات على قصائدة، ومراجعتها لمرات ومرات، صعب على الباحثين العثور على قصائدة بعناوين ثابتة محفوظة.
في عام 1922 تقدم كفافيس بإستقالته من وظيفته، وخلد إلى العزلة، واستقر في منزله الحالي/المتحف، واستمر في كتابة الشعر لنفسه ولأصدقائه القليلين، إلى أن أصيب بمرض سرطان الحنجرة، ما اضطره إلى السفر إلى اليونان لإجراء جراحة، عاد بعدها وقد انقطعت أحباله الصوتية، ليفقد الشاعر صوته إلى الأبد، ويدخل بعدها إلى مستشفى كوتسيكا المواجه لمنزله في ذلك الوقت، ليظل فيه لمدة شهرين، وأثناء إقامته القصيرة في المستشفى زاره أحد القساوسة، وعرض عليه أن يقوم بطقس «المناولة» ورفض كفافيس الأمر، فقد كان «لا دينياً» لكنه رضخ في النهاية تحت الإلحاح الشديد للقس، مما جعله يندهش بعد ذلك من موافقته وقيامه بهذا الطقس الديني الخاص بالعقيدة المسيحية. ثم وافته المنية في التاسع والعشرين من شهر نيسان/إبريل عام 1933 عن عمر يناهز السبعة وسبعين عاماً، ليتم دفنه في مقابر الجالية اليونانية في منطقة الشاطبي في الاسكندرية.
الشهرة والخلود
أثناء الحرب العالمية الأولى جاء إلى الاسكندرية الكاتب الإنكليزي «إيه. إم. فورستر» وتقابل مع كفافيس، واطلع على أعماله الشعرية، ليبدأ فور عودته في ترجمتها، لينقل تجربته الشعرية إلى قارئ اللغة الإنكليزية، وتكرر الأمر لدى وصول «لورانس دارييل» عند مجيئه إلى الاسكندرية أثناء الحرب العالمية الثانية، ليخلد ذكرى كفافيس في «رباعيات الاسكندرية» الشهيرة، لتنطلق شهرته إلى أرجاء العالم كله.
أوصى كفافيس قبل وفاته بمنح متعلقاته إلى صديقه وجاره ومدير أعماله «سنجوبلو» الذي قام بنقل أغلب المتعلقات إلى اليونان، وقام ببيعها هناك، ولم يترك منها إلا النزر اليسير، مما تعذر عليه نقله إلى خارج البلاد.
وقامت الجمعية اليونانية بنقل ما تبقى من المتعلقات إلى مقرها وأقامت متحفاً خاصا بكفافيس، وتم بيع المنزل وحوّله المالك الجديد إلى «بنسيون» وأطلق عليه «بنسيون أمير» إلى أن تم تعيين الشاعر والكاتب اليوناني كوستيس موسكوف مستشاراً ثقافياً لليونان بحلول عام 1991 فأسس جمعية لمحبي كفافيس، وسافر إلى الاسكندرية في محاولة لشراء المنزل من مالكه مرة أخرى، ونجح بالفعل بمساعدة من رجل الأعمال اليوناني الثري «ستراتي جاكس» وهو أحد أعضاء الجمعية، وتمت استعادة متعلقات الشاعر الكبير من مقر الجمعية اليونانية، وإيداعها مرة أخرى في المنزل، ليتحول إلى «متحف كفافيس» الذي تم افتتاحه عام 1992، ويتبع السفارة اليونانية، ليعود كفافيس إلى المنزل الذي قضى فيه آخر خمس وعشرين عاما من عمره، وقال عنه في مذكراته: «ليس أفضل من هذا المنزل الذي أعيش فيه، في الأسفل شقة مواعدة تعالج ضرورات الجسد، وأمامي تقع الكنيسة حيث تُغتفر الخطايا، وأبعد قليلاً توجد المستشفى حيث نقضي».
المقتنيات
بخلاف المتعلقات القليلة التي تبقت، يضم المتحف تمثالاً رخامياً نصفياً لكفافيس، ومجموعة من كتبه، والطبعة الأولى من ديوانه الشعري، إضافة إلى العديد من ترجمات أشعاره بمختلف اللغات، حيث تم ترجمة أعماله إلى أكثر من سبعين لغة، بجانب العديد من الكتب النقدية لأشعاره من مختلف أنحاء العالم. كما يضم المتحف مجموعة من الصور الشخصية المختلفة للشاعر ولبعض أفراد أسرته، وبعض هدايا الكنيسة اليونانية إلى المتحف، ومجموعة من الأيقونات وطوابع البريد التذكارية التي تخلد ذكرى كفافيس، إضافة إلى العديد من شهادات التقدير التي حصل عليها، ومجموعة من الأفلام التي تم إنتاجها عن سيرة حياته من مختلف أنحاء العالم، والعديد من اللوحات المرسومة للشاعر من قبل فنانين من مختلف البلاد.
المتحف وزواره
وعن الزوار، يقول محمد السيد، أمين المتحف: «كان الإقبال من قِبل الأجانب كبيراً، حيث يسعى إليه الزوار من مختلف دول العالم، منهم مشاهير الفن والأدب، إلى أن قامت ثورة الخامس والعشرين من كانون الثاني/يناير، فنظراً للظروف التي مرت بها البلاد أصبح عدد الزوار من خارج البلاد قليلاً جداً، لما صاحب الأحداث من توترات أثرت سلباً على السياحة بوجه عام، في الوقت نفسه تزايد الإقبال من المصريين بشكل غير مسبوق، وبأعداد كبيرة من مختلف الفئات العمرية والاجتماعية والثقافية، فلم يعد النشاط السياحي بالأمر الهام، فحضور المصريين إلى المتحف هو العزاء الوحيد لتناقص أعداد الزائرين الأجانب».
وعن تفسيره لسبب إقبال فئات مختلفة من الشعب المصري ــ من شتى المحافظات ــ على المتحف من بعد الثورة، يرى أمين المتحف أن السبب الوحيد هو ما صاحب الثورة المصرية من طفرة ملموسة في الوعي السياسي والثقافي للناس، ويبدو بالفعل أن هذا هو المتغير الوحيد الذي حدث، بما صاحب الثورة المصرية من عودة الروح إلى شعب استفاق ليستعيد حضارته وثقافته، بعد أن نفض عن وعيه ما تراكم عليه من تغييب ممنهج، فنهض ينقب عن تاريخه من جديد، باحثاً عن أبطاله الحقيقيين.
وعن زائر المتحف الذي لن ينساه طوال حياته، أجاب محمد السيد أنه لن ينسى أبداُ حين فتح باب المنزل ليجد أمامه عدة أطفال في المرحلة الإعدادية، يريدون دخول المتحف لرؤية الشاعر كفافيس، رفضوا عرضه بدفع ثمن نصف تذكرة زيارة المتحف، وأصروا على دفع ثمنها بالكامل، على الرغم من إنتمائهم للطبقة المتوسطة، ليصحبهم في جولة في المتحف، تنتهي بوعدهم له بإرسال الكثير من زملائهم إلى المتحف، واستطرد الرجل بأنهم أبرّوا بوعدهم بالفعل، وكانت هذه من أكثر لحظات سعادته خلال عمله كأمين للمتحف.
وأضاف أن فئة طلاب الجامعات تشكل كتلة كبيرة من زوار المتحف، بمختلف طبقاتهم الإجتماعية، ومن الطبيعي أن يكون في مقدمتهم طلاب كليات الآداب والفنون عامة، لكن اللافت للنظر هو إقبال طلاب كليات الطب والهندسة، خاصة بما يبدونه من وعي واهتمام.
وعن الأسماء الشهيرة التي زارت المتحف، يذكر منهم محمود درويش، وأدونيس، وأحمد عبد المعطي حجازي، وسعدي يوسف، وأورهان باموق، وماريو برجاس يوسا، ونادين جورديمير، وآخرون كثر لا تسعفه ذاكرته بأسمائهم.
شبح وزارة الثقافة المصرية
وعند السؤال عن إسهامات وزارة الثقافة المصرية ومدى ما يثمره التعاون والتنسيق معها فيما قد يُقام من أنشطة وفعاليات في المتحف، أجاب بأنه يحمد الله أن وزارة الثقافة المصرية ليست لها أي علاقة من قريب أو من بعيد بالمتحف، وظننت أنني لم أفهم كلماته بشكل صحيح، فتساءلت بصيغة أخرى عن ما تقدمه الوزارة من دعم أو تعاون أو أي تنسيق، ولو لتنظيم زيارات وفعاليات للمتحف، ليجيبني أن المتحف لا ينتمي سوى للجالية اليونانية وللقنصلية اليونانية فقط، وأن هذا ما جعله يستمر على الرغم من صعوبة الظروف، وأن كل الجهود ما هي إلا جهود فردية من قبل محبي كفافيس، وأشار إلى الحالة المتردية للمتاحف التابعة لوزارة الثقافة.
محمد عبد الرحيم