محمد عبد الوهاب: نعرفه جميعا ولا يعرفه أحد
[wpcc-script type=”6e670dceffcae6a72682e100-text/javascript”]
إنه عبد الوهاب، الموسيقار الذي وضع بصمة لن يمحوها تعاقب الأجيال، فهو ببساطة لم يكن موسيقيا لجيل واحد، كان يكتب للمستقبل، ليظل فيه، وهكذا حفظته الذاكرة ليس في لحظتها، بل في سجلها الأكثر نصاعة، لأنه سجل الإنسانية والحضارة.
منذ فترة وأنا أقرأ كتابا بعنوان: «محمد عبد الوهاب الذي لا يعرفه أحد» لمؤلفه محمود عوض، وفي الكتاب نتعرف إلى الجوانب الإنسانية الخفية من حياة الموسيقار الراحل، وتلك الجوانب حسب المؤلف تعرفنا إلى «فن الشخصية» لدى عبد الوهاب، تلك الشخصية التي يديرها مخرج بارع تماما، إلى درجة أن الموسيقار يستطيع أن يلبس أكثر من قناع في أقل وقت ممكن، ويستطيع ببساطة أن يغيّر تقاسيمه من متجهم إلى فرح إلى ضاحك أو حزين.
الجميل في ما كتبه عوض أنه كان يتابع كل حركة أو نأمة أو تعبير في وجه وجسد عبد الوهاب أثناء حديثه معه، أو مع آخر على الهاتف مثلا، يرصد انطباعاته وحتى حركة رموشه وأصابعه، يدقق في كل شيء كأنه سيقف على المسرح بعد قليل كممثل فنان ليؤدي شخصية الموسيقار، لا ينسى عوض حتى مخارج الألفاظ أو الأنفاس التي تصدر مع كل تنهيدة أو كلمة للموسيقار. بأسلوب يكاد يشبه رواية متسلسلة ينقل عوض كل ما كان يدور بينه وبين عبد الوهاب، يسأله ويرد سريعا، يحاوره وبين هذا وذاك يراقب متى يكون الموسيقار صادقا ومتى يلبس قناعا ومتى يتنازل عن القناع لمصلحة الحقيقة. يسأل عوض: من هو الفنان؟ ويرد الموسيقار: «الفنان نوعان: فنان مثل ورق النشاف، يلتقط كل شيء وفنان مثل ورق الجلاسيه لا يحتفظ بشيء». «أنا كان عندي عقدة من الستات، هممممممم.. عقدة أعرف سببها جيدا وسوف أخبرك تفصيلا».
عبد الوهاب شخصية مجاملة جدا، ومع هذا يقوم دائما بعملية جرد لحمولاته من العلاقات الإنسانية والأصدقاء لأنه يعتبرها أحيانا حملا ثقيلا، فنه يأتي دائما في المقام الأول، ومع هذا نجد بين أصدقائه من لا يمثل أكثر من شخص مسل بالنسبة له، الأصدقاء في دائرته ينتمون إلى كافة الاتجاهات وهم أيضا متنوعون إلى أقصى درجة، ولكن يبقى أن الحمولة يجب أن تتخفف دائما حتى يستطيع الموسيقار أن يمنح فنه أكبر قدر ممكن من حياته، فحياته في النهاية هي تلك الأنغام التي يصنعها بمخيلته وروحه وعقله وجسده مجتمعة.
«احترم نفسك أولا حتى يحترمك الآخرون» ربما كان هذا الشعار الملازم لعبد الوهاب في مسيرة حياته، فالإنسان الذي لاقى في حياته طريقا صعبا ووعرا، وعانى من الفقر والذل، وضع بينه وبين الناس مسافة تكفي كي لا يتعدوا على حياته، وكي يبقى الاحترام قائما، رسم بدقة كل شيء حوله حتى يبقى في صومعته الفنية، شخصا بهالة كبيرة ومع هذا يبقى شخصا في منتهى الود واللطف.
ويسرد عوض حادثة حيث ذهب عبد الوهاب مرة ليغني في أحد الأفراح بمرافقة فرقته الموسيقية في إحدى القرى المجاورة لبنها «وقبل الغناء دعاه صاحب الفرح للعشاء على مائدة المدعوين، في حين اختار لأفراد الفرقة الموسيقية مكانا في حظيرة البهائم، لحظتها انصرف عبد الوهاب مع فرقته احتجاجا على هذا التصرف. وفعلا عاد الجميع ليلتها بدون أن يقوموا بإحياء الحفل». كان عبد الوهاب يكتسب احترام نفسه أولا بهذا التصرف ومن ثم احترام من هم حوله.
يكشف عوض في كتابه عن جوانب ثرية جدا من حياة موسيقار الأجيال، ولا يتوقف عند المساحات الإنسانية، بل يستكشف علاقاته بالفنانين الذين جايلوه، ولا يترك سطرا في مسيرة الموسيقار من غير أن يبحث فيه، فتلتقط أذنيه مكالمة هاتفية مع المطربة فايزة أحمد، ويحفظ تماما طريقة حواره معها على الهاتف وتقاسيم وجهه وهو يستمع إليها، يكشف عن علاقته بالموسيقار سيد درويش وكذلك بالشاعر أحمد شوقي وغيرهما.
وقد ظلّ المال شيئا أساسيا في حياة الموسيقار الذي عانى من الفقر، وقد كان هذا المال بالنسبة له ضمانا لاستمرار عمله في الموسيقى، واستمرار تأليفه ووضعه للألحان، «إن عبد الوهاب رجل رأسمالي جدا في عواطفه، ولكنه رأسمالي للغاية في أمواله». وكلما سمع عن مشروع يبادر بسؤال جاهز: كم مربحه؟ وكم هي الفترة التي سيثمر المشروع بعدها أرباحا؟ بعضهم كان يصف الموسيقار بالبخل، ولكن عوض يرى أن هذا حرص، وحقيقة الأمر أن المعاناة التي مرّ بها عبد الوهاب في طفولته وشبابه لا بد أن تجعل منه شخصا حريصا، فالخوف من المستقبل سيظل موجودا لمن اختبر العوز والحاجة. وعبد الوهاب الذي لا يعرفه أحد شخص بسيط كما يظهر من سطور الكتاب، ومع هذا فهو شخص دقيق، مواعيد الطعام عنده «أكثر دقة من جامعة القاهرة» وفي الوقت نفسه حريص على صحته، يحب الطعام ولكنه أيضا ينتبه لفوائد الأطعمة، يحرص على أن يكون طعامه مفيدا، ولا يشغله شيء عن مواقيت السفرة، فهو محب للطعام.
التجوال في صفحات الكتاب يعطينا متعة كبيرة، ليس فقط في الدخول للغرف الخلفية من حياة موسيقار الأجيال، بل أيضا متعة القراءة نفسها التي استطاع المؤلف أن يجعلها رحلة سلسة لا تكتفي بالحوار، بل تستغور وتستكشف لتلقط في عدستها ما لا تراه العدسة العادية.
لن أتوقف هنا، ففي مقالتي المقبلة سأتابع رحلة الموسيقار مع زملائه والعلاقات الجمـــيلة والإنسانية التي ربطت بينهم.
٭ موسيقي عراقي
نصير شمه