مديح الثورة والهويات

■ هذا سؤال يحيلنا إلى التأويل الذي جوهره المشاكسة، وعلى تقدير أقل هو سؤال غير بريء، يتطلب ضبطا على منحيين: الصياغة الدقيقة أولاً، وثانيا الإقرار بوجود (جزئية) الهوية الثقافية المكتملة، وعلاقتها بالحداثة والفكر المعاصر الإنسانيين.

مديح الثورة والهويات

[wpcc-script type=”01cee417af74d4df687acdb7-text/javascript”]

■ هذا سؤال يحيلنا إلى التأويل الذي جوهره المشاكسة، وعلى تقدير أقل هو سؤال غير بريء، يتطلب ضبطا على منحيين: الصياغة الدقيقة أولاً، وثانيا الإقرار بوجود (جزئية) الهوية الثقافية المكتملة، وعلاقتها بالحداثة والفكر المعاصر الإنسانيين.
وإذا كانت الحداثة العالمية غير مكتملة، على حد تعبير المفكر الألماني هابرماس، أمكننا القول إن الهوية الثقافية العربية بوصفها هوية إنسانية وعالمية بفعل التلاقح والمثاقفة، لا يمكنُ تبيئتها ضمن الكل العالمي، وربما من هنا يمكن الأخذ بمقولة صدام الحضارات لا تعاضد الحضارات وتكاملها، إذ أن إغفال السند التاريخي وإهمال المنجز (قديمه) يعني انزياحا بالعدوان على الحاضر الذي نحن فيه واستلابه، ما يعني أن عطالة ستصيب المنحيين اللذين تمت الإشارة إليهما دراسياً، لينسحب اللامكتمل على الهوية العربية الملتبسة أصلا في تشتت ذهنها، إذا جاز التعبير، بين ماض يتم التغزل به ولم ينتقد بشكل صحيح وخارج تاريخيته، انطلاقا من أن التاريخ يكتبه العظماء، وبين راهن أسود ومرير تتمتع فيه فئة قليلة بخيرات فئة كثيرة، وهو ما يشكل مطلبا ملحا تحت بند ثوري «توزيع عادل للثروة». الهوية فعل أيضاً، ومراكمة وهي اختبار جَلد المجموع باعتبارهم أمة، وجلد الفرد باعتباره مؤسساً لنظريته الشخصية في الدفاع عما يراه ملكه واسمه وقضيته، ومنها يرى ثقافة الآخر وتموضع ثقافة جماعته في الكل، فيزنها، وينخرط فيها، إما تحدياً أو طرحا للسؤال المعرفي حول هذا (المُلك)، حيث يأخذ منه ومن الجماعة التي شكلت حاضنته وظرفهُ وبالتالي يوحي هذا الفعل بالاقتراب ولو مواربة أو وهما من الهوية ومشاغلها، وإن بالحد الذي عبر عنه هابرماس بـ»اللامكتمل» وقاربه ريتشارد لوينثال في بحثه (الجحيم): «أكثرُ المجتمعاتُ الحرة التي عرفناها ديناميكية هي، تلك المجتمعات التي انتمت إلى حضارات آمنت بالنظام الاجتماعي المؤسس على الحرية، وبقية الجهود الفردية» على أن نقول: الفردي ـ هنا – يطور نفسهُ تبعا لمثلٍ دينية أو أخلاقية ما قبل دينية، ما لم يلق المعارضة من الدولة (التوتاليتارية)، الدولة التي توهم مواطنها بالمأسسة، في حين هي شكل متقدم من الديكتاتورية، ما يتوضَّح جلياً في الأشكال التقليدية العربية الحاكمة، التي أوصلت الإنسان إلى حافةِ الإيمان بالكذب واعتبار الكذب المغلف بالشعارات والمشاريع المؤجلة حاجة وضرورة لابد منهما لاستمرار (المسيرة). يؤخذ على الفكر العربي المعاصر (علك) النظرية إذا جازت المفردة، يأخذها بعد فقدانها صلاحيتها في بلد المنشأ، تماماً كأخذه لسلع وحاجات يومية، ويتشاكل معها بحدود تعارضها مع السياسي أو الديني، كتابوات يحرص على عدم المساس بها، لا لأنه يستسيغها، بل لأن تحريكها يعني المساس بطمأنينته ومطالبته بنزع قشرة الخوف الكتيمة، وبالتالي المحافظة على الشعور الوهمي والكاذب لديه، بأنه يقوم بدوره الأخلاقي تجاه من أناطَ به مهمة التصدي والانتصار لذاته، الذات المجروحة غالباً، وما العودة إلى التراث والقيم الأصيلة الفكرية منها والاجتماعية، إلا عودة إلى تبيين الهوية ضمن الممكن، هذه الهوية بوصفها عربية/ إسلامية، لها حامل أصيل تاريخيا، ويتعدىّ التاريخانية إلى ما هو أعمق وأبعد، وأقصد الديني الذي يشيع القيمي بدوره، ويتعدّى إلى تلمس الذات العربية، كذات فاعلة وحساسة في وقت ما لم تكن فيه الأمم الأخرى تنعم بها. إن هذا التقديم ليس إلا مساهمة في تبيين البعد الشبيه بالأسطوري في النظر إلى الهوية العربية وتشكلها، ما يعني برأيي الشخصي أن الثقافي هنا كهوية سيكون حاضراً باعتباره مدافعا ومنافحا وموازيا للسياسي، الذي يُمنى بالهزيمة تلو الأخرى، وأقصد هنا في ما لو أردت أن أوجز في الإجابة: أن هذه الهوية قد يعتورها ما يحدُّ من شأنها، ويخلخلها، لتستعيد أنفاسها وتأخذ مكانها الطبيعي في ما بعد، (البعد) غير البعيد، ضمن توصيفها كجزء من هوية عالمية، رغم تراجع مفكرين عن مشاريع نهضوية/ آنية، مستشرفة، تبحث في المستقبليات، والانكفاء على التراث، تهرباً من الاصطدام بالمؤسسة الرسمية. إن ما تشهده المنطقة العربية وإن لم يكن ربيعا، فهو بالضرورة حالة استندت إلى المراكمة الثقافية لمجموع الناس والأفراد، وأخرجتها إلى الشارع في شكل صرخات ذات دلالة وأغان وقيم جديدة أيدَّت فكرة أن المنطقة ليست منطقة توتر وجهالات، بل منطقة ابتكار لها حقيقتها وظرفها الذي تعمل فيه، وأن العوز الثقافي الذي يروَّج له ومنه يتم الاستلاب ليس عوزا ثقافيا بقدر ما هو سياسات تصنع عدوها المفترض. ما يحدثُ حلم أقرب إلى الإيهام: الحياة ممكنة.
ربما جاءت مقدمتي على حساب المتن، وهو ما يخص التحول العربي المسمىّ «الربيع العربي»، غير أن المقدمة وما يحيط بها هي توطئة، للأخذ بأن المنطقة العربية المفصولة من الماضي التاريخي هي منطقة غنية جغرافيا وبشريا، إضافة إلى الغنى الطبيعي من حيث الثروات والتنوع المناخي لامتدادها على قارتين متباينتين طبيعيا وجيوسياسياً، ومن ثم وبفعل التطور التقني والتوسع العولمي الذي أحدثته (الميديا)، تغيرت فكرة الأعلى والأدنى، وصارت مقولة «المثاقفة» هشة وغير قادرة على الصمود أمام تحول الشباب العربي من صائد للتقنية أو النظرية إلى صائغ، وفي الحد الأدنى متفاعل معها، لنرى جيلا من النخبة في الجامعة الغربية دارسا ومدرسا، ونرى في الوقت ذاته انفتاحا ولو خجولا (من وإلى) على مستوى الكتابة الصحافية والإبداعية رافقته حركة ترجمة تنشط أحيانا وتخبو في أحايين أخرى، وهو ما كسر احتكار (سيادة الآخر)، وسرّع من تشكيل شخصية تثق بنفسها ومتخلصة من العسف الموضوعي المتمثل في نظرة الآخر له، ومن العسف الداخلي (الأنوي) الذي مارسته الشخصية العربية حيال نفسها، وهو ما قمعته السلطة السياسية على الدوام، ليكون هذا الشعور العملي شعورا مغيبا وبحكم اليوتوبيا. وطبيعيا صار هذا النخبوي الخارج على ذاته بفعل كوات فتحتها له إطلاعاته على المنجز الإنساني البحث عن متلق له، وجده في شريحة ظنها مغيـــبة لصالح الموضة وتطفو على السطح كزيت ثقيل، بل كان الأمر على العكس من ذلك، فالشارع الذي احتضنَ الثورات التي بدأت في الـ2011 ومازالت تتأور نارها في بلدان أغمض العالم عينيه عن نصرتها لتنصله الأخلاقي والأدبي من اتفاقياته التي ألزم نفسه بها، ليظهر للمراقب عالما انتقائيا، يخضع لقرار سياسي جوهره استعماري، يتمثل في تصدير أزمته أو فوبياه إلى هذه المناطق، بذريعة الإرهاب ومكافحته وكف البلاء بحيث يشغل هذه الشعوب المبتلية أصلا بحروب هي في غنى عنها، إذا عرفنا أنها تبحث عن لقمة العيش قبل أن تفكر بقضايا أخرى تخيف العالم، التحول الذي شهدته المنطقة العربية، التحول في شكله السلمي المتمثل برفع شعارات مدنية تتمثل في المطالبة بالحرية والعدالة وبعقد اجتماعي ملزم للجميع وخلق ظروف مواطنة حقيقية تحل القانون بدلا من مركزية القمع وحتى في الشكل العسكري الدموي، الذي تهيأت له ظروف موضوعية يعجز المكان عن ذكرها هنا، بدا تحولاً قدَّم صوتا جديدا للساحة، وأعطى معنى للحياة العربية الخاملة، وللعربي الذي وجد أن الثورات صارت معجزة لا يمكن تحققها في الدولة الأمنية المرتكزة على إشاعة الخوف وخلق نسق، ينتصر لمقولة: دولة الخوف قدر، ولابد من الإيمان به.
يمكن القول ختاما إن الهوية العربية يشتد عضدها في المطالبة بحصتها من الهوية المكتملة أو غير المكتملة، تفعل فعلها، ابتداء من محاولتها التغيير في بنيتها الساكنة/الستاتيك، وما الثورات المتعثرة حاليا ضمن ربيع قد يطول على فصول عدة إلا خطوة مدفوعة بل وباهظة الثمن، غير أن تجارب الشعوب تحكم على ما يمر به العربي بأنه خطوة في الاتجاه الصحيح، ولهم في القارة العجوز القدوة الحسنة، وربما الفائدة الأكبر تتلخص في أن الحال لن يعود إلى ما كان ولن يكون الاستئثار بالسلطة وحكم العائلة ديدن المرحلة القادمة، وحياة الشعوب تقاس بالسنين الطويلة وليس بالأشهر والأيام… فلننتظر.

٭ كاتب سوري

محمد المطرود

كلمات مفتاحية

Source: alghad.com

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *