معرض «أنا بخير اطمئنوا» نماذج من نضال المرأة العربية
[wpcc-script type=”757f44285259254ae1da5713-text/javascript”]
القاهرة ـ «القدس العربي»: «الناس في البلد اتكلموا كتير لما جيت هنا، لكن أنا كسرت الحاجز ده، ما يهمنيش حد المهم أنا عايزة إيه». (زينب، عاملة منزل).
«يعني أنا ما عشتش سنّي، شبابي، كنت في السينما على طول … ما اقدرش أسافر، ما اقدرش أنام كويس، ما اقدش آكل … عشت شبابي بعد ما بطلت سينما». (هند رستم).
«اشتغلت من قبل ما اتجوز علشان أجهز نفسي، علشان ماما لا كان عندها دخل ولا حاجة». (سعدية حسين من مواليد 1975، عاملة في منزل).
«أنا بخير اطمئنوا». (شاهندة مقلد).
هذه العبارات وغيرها الكثير مما يدل على تجارب عديدة لنساء مصريات ناضلن في سبيل أفكارهن وحياتهن، دون التوقف أمام أفكار بالية لمجتمع يحده الخوف حتى من محاولة التجربة، هذا الخوف الذي يتمكن من الرجل أكثر من المرأة، هذه التجارب تكشف عن ذلك وأكثر، وتوضح مدى ما تتمتع به المرأة المصرية من قوة وصلابة في مواجهة الحياة. أعمال فنية تشكيلية وبعض من شهادات وتذكارات ومقتنيات شخصية لعدة نساء متباينات الأعمار والفئات الاجتماعية، شهيرات كما في ميدان العمل الاجتماعي، ومناضلات سياسيات، وفنانات، والأهم، نساء يخفيهن الظل دوماً، وهن القطاع الأكبر لنساء مصر، بسيطات وقادرات على إنتاج صيغة حياتية تتناسب وقدراتهن، والأهم الحرية التي يبحثن عنها. من هؤلاء هند رستم، وسعدية حسين، وزينب، وعلياء خيري، ووداد متري، ورواية محمد، وريم الجندي، وأم إبراهيم، وكوكب حفني ناصف، وشاهندة مقلد، التي زيّلت رسالتها الطويلة من داخل المعتقل عام 1978 بعبارة «أنا بخير اطمئنوا» وهي التي أصبحت عنواناً للمعرض. والمعـرض الذي احتفى بنساء عربيات يقمن في مصـر ولبنان والأردن والدنمارك، هــــو عبارة عن عمل مشترك تعاونت فيه مؤسسة المرأة والذاكرة من مصر، ومتحف المرأة في الدنمـــارك والمعهد الدنماركي المصري للحوار ووحدة الأنثروبولوجيا ومركز سينثيا نيلسون في الجامعة الأمريكية في القاهرة ومركز طراز في الأردن وورشة المعارف في لبنان. وأقيم مؤخراً في مسرح الجامعة الأمريكية في القاهرة.
أصوات متعددة لنغمة واحدة
نطالع العديد من الأعمال والمقتنيات وأجزاء من سيرة الحياة لنساء مختلفات، مهناً وموطنا وفئة اجتماعية. الفنانة المصرية الراحلة هند رستم، وكوكب حفني ناصف أول طبيبة مصرية، والتشكيلية اللبنانية ريم الجندي، وفنانة الفخّار المصرية راوية محمد، والعراقية وداد الأورفه لي، التي أسست أول قاعة عرض للفنون في العراق، وأم إبراهيم الفلسطينية، ونادية صفوت المصرية، وبلسم أبو زور اللبنانية، وأخريات.
أردية وقصاصات ورق وأعمال فنية وصورة زفاف باهتة، وتجارب عديدة خاضتها النساء تشكل في معظمها رغم تباينها نغمة الوقوف ضد السلطة، أياً كان شكلها، خاصة السياسية والاجتماعية، وما بين السجن المعهود وسجن التقاليد والأعراف جاءت تجاربهن، التي من خلالها تحققت بعض أحلامهن، التي تتمثل في تأكيد وجودهن، غير تابعات أو ناقصات عقل وما شابه من العبارات التي التصقت بالمرأة العربية منذ زمن بعيد. نغمة النضال هذه ــ دونما أي افتعال ــ تحققت في عمل هؤلاء في الأساس، وتحمّل تبعات قراراتهن في الحياة. فكرة العمل هي التي حرّكت أفعالهن وجعلت من طريقهن في الحياة محاولات مستمرة للشعور بالحرية، بلا طنطنة أو مقولات جاهزة دعائية في الغالب. أم إبراهيم على سبيل المثال، اسمها رقية السنتريسي، اضطرت إلى الفرار عام 1948 عند حلول النكبة، وبعد إقامة قصيرة في دمشق، غادرت مع أسرتها وأبنائها الثمانية إلى الأردن، وهناك استغلّت فنّ التطريز الذي تعلمته منذ أن كانت في العاشرة وحولته إلى نشاط مدر للدخل، وقامت بتدريب أجيال من النساء على التطريز، وقد أضافت الكثير للنهوض بفن التطريز.
التاريخ وأشكال تدوينه
بخلاف التاريخ الذي يدونه المنتصرون دوماً، وهو في الغالب يأتي مخالفاً للوقائع والأحداث، يبدو هناك تاريخا من وجهة أخرى، يمكن الاستناد إليه واكتشاف عصره وظروفه، تاريخ شفهي أكثر صدقاً وتلقائية، يأتي على لسان أصحابه، على العكس من كتبة التاريخ الرسمي المأجورين. والأكثر من هذا أن يكون هذا التاريخ على تنوعه، والذي شمل العديد من البلاد العربية أن يأتي من خلال النساء، الصوت الأكثر خفوتاً. هذا الخفوت الذي يبدو في الدروب التي سرن فيها، سواء بإراداتهن أو رغماً عنهن تبعاً لظرف اقتصادي أو اجتماعي، كأن تضطر المرأة إلى العمل لإعالة أسرتها، أو نظراً لموت الزوج، لا تبدو هنا نغمة الاستسلام السائدة التي يريد الكثيرون إلصاقها بالمرأة، لكنها حياة تتم كتابتها من خلالها، وتكشف عبرها الكثير من الأزمات والموبقات التي دوماً ينفيها النظام السياسي والعرف الاجتماعي السائد والمتحكم في أدق أمور الحياة. من خلال لوحة أو صورة أو شهادة جامعية، وحتى رداء ينتمي إلى زمن آخر، يمكننا أن نسطر تاريخاً مغايراً تماماً، يبدو فيه تواطؤ الجميع خِشية الافتضاح، والذي يوصم به حاكم أو زوج أو رجل في العائلة. المواجهات هنا كانت مع المجتمع والذات والقدرة على اختبارها وصمودها، تاريخ شخصي في الأساس، لكن في مجموعة وبنظرة شاملة يتعدى هذا القصور، ليصبح تاريخاً جديراً بالاحتفاء وأكثر صدقاً بكثير من أحداث ملفقة، غير جديرة بالثقة. ليبدو هنا شكل البطولة المغاير للمعهود والمتواتر كما في مخيلة المهللين أو المعترضين على هذا البطل أو ذاك. البطولة هنا حقيقية، دون صخب، إنسانية أكثر من كونها شكلاً من أشكال كلاشيهات التاريخ الزائفة.
«أنا بخير اطمئنوا»
رسالة طويلة من داخل أحد السجون، اختتمتها صاحبتها بهذه العبارة، والتي أصبحت عنواناً دالاً لتجارب النساء جميعاً، طبيبات وعاملات في المنازل وممثلات وطالبات ومحاسبات وصانعات أفلام وعاملات في التطريز وخياطات ومُعلمات ومرشدات سياحيات وفنانات وكذلك أمهات وبنات وصديقات. والتجربة تتوافق وحالة السجن المعنوي في الغالب، وقد تحررن أخيراً بفضل إيمانهم بأنفسهن وبالحياة التي تليق بهن. فلا شيء نال من إرادتهن أو أرواحهن. رسالة الاطمئنان هذه هي الأهم، وهي التي تعقد مقارنة دائمة بين الشعور بالحرية والمسجونين بالفعل، فالذين في الخارج لا يدركون أنهم يعيشون في سجن حقيقي، بخلاف حالة الوعي التي طالت النساء هنا، من ناحية أخرى وإن كان المعرض يتفاوت زمنياً، إلا أنه لا يوحي بأن ما حدث قد حدث وانتهى، بل لم يزل يحدث كل لحظة، زمن طويل ممتد ولم ينته حتى الآن. هنا لا يقتصر التاريخ على كونه اتخاذ العِبرة من حيوات كانت، بل يظل حاضراً وثقيلاً ومحفزاً للآخرين، رجال ونساء متساوون في المعاناة، وأمامهم لحظة مستقبلية من الممكن أن تتغير نحو الأفضل… فاطمئنوا.
محمد عبد الرحيم