معرض «الذاكرة الزجزاجية» للفنان مصطفى الرزاز: مختارات من رحلة فنية تجاوزت النصف قرن
[wpcc-script type=”7e9bdc9ace693646777803d6-text/javascript”]
القاهرة ـ «القدس العربي»: تعد تجربة الفنان مصطفى الرزاز (75 عاما) من أهم التجارب الفنية في التشكيل المصري المعاصر، ورحلته الطويلة والمتباينة مع المادة ومحاولات تطويعها لأفكاره تحمل قدراً كبيراً من الابتكار والتجديد، دون الابتعاد عن الزمن الحضاري المصري وروافده الكثيرة.
لم يلجأ إلى أشكال التغريب حتى يتوسل الاختلاف، لكنه تعمق أكثر في الموروث ورموزه وأساطيره، وحاول من خلال ثيمات محددة أن يصوغ هذه التجربة، التي تنوعت مع الزمن، وهنا تكمن فرادة الرجل وقيمة مخيلته. فما بين المرأة، الحصان، العصفور، النبات تأت لوحاته ومنحوتاته التي تتواصل مع لحظات فاصلة في حياة المجتمع المصري… حروب وهزائم وثورات وأحلام كانت وأخرى لم تزل يراوده تحققها. ورغم ما يبدو من غرابة في بعض اللوحات، إلا أن اجتماع هذه العناصر أو الأشكال هي المحاولة في التعبير عن عالم كامل، قد يضطرب في الكثير منه، وقد يجد ضالته في لحظة هدوء فوق شاطئ النيل. وفي معرضه المقام حالياً بغاليري بيكاسو في القاهرة، والمعنون بـ «الذاكرة الزجزاجية» يعاود الرزاز اختيار أعماله التي أنتجها منذ الستينيات، والعمل عليها من جديد، مختارات كان لذاكرته الفضل في هذا الاختيار والانتقاء، وكأنها رحلة في زمن لن ينتهي، ولا فارق ما بين لحظة مضت وأخرى سوف تأتي، هذا الزمن الممتد، والذي لا تحده فواصل العقل الوهمية، سعياً بين لحظاته، هو ما أطلق عليه الذاكرة الزجزاجية، زمن متعرّج غير محكوم أو محدود، دونما أي انفصال بين مرحلة وأخرى، وكأنه عيش جميع حالاته في الوقت نفسه. من هنا تأتي فرادة التجربة، التي تنوعت ما بين اللوحات والأعمال النحتية المختلفة.
الموروثات والرموز
يحتفي الرزاز بعالم الموروثات والأساطير المصرية، كذلك الملاحم العربية الشعبية، لم يلتفت الرجل لأساطير ورموز الصفوة، لكنها أساطير الوعي الجمعي الشعبي، وداخل اللوحة الواحدة يصوغ هذا العالم الممتد والمتداخل ما بين الأساطير والرموز الفرعونية والعربية التي أصبحت رافداً من روافد الثقافة الشعبية المصرية، حالة من التوازن الثقافي إن جاز التعبير، دونما خلل أو اغتراب. وتتواصل حالة التناغم هذه ما بين جميع المخلوقات من شخوص وطيور وحيوانات ونباتات، الرجال والنساء، وللمرأة دوماً مركز الصدارة في اللوحة، مكاناً أو حجماً، وتأتي ثيمة الحصان التي لا تفارق اللوحات، ورغم كونه كما يعتبرونه رمزاً للذكورة، إلا أنه يجعله جامعاً للذكورة والأنوثة معاً، وكأنه المعبّر عن حالة الكمال الجمالي، فالعين والشعر والذيل تماماً كعين المراة وشعرها، حالة من التباهي بالجمال، كذلك لون جسد الحصان، الذي يتشابه في الكثير من اللوحات ولون جسد المرأة أو لون ما ترتديه، جمالاً مصرياً كما في رسومات المعابد الفرعونية، ورغم هذا الجمال الذي يتشابه والأنثوي، تبدو القوة في تفاصيل الجسد وكأنه ملمح لوجود الرجل. أما الفارس الشعبي والمتمثل في سيرة (عنترة) فهو في العديد من الأعمال يبدو أكثر تشابهاً والقديسين، مارجرجس بشكل خاص، وسيرة عنترة بالأساس هي سيرة بطل يحمل سمات المجتمع وتناقضاته، مجتمع السادة الجبناء، والعبد الشجاع المُدافع عن الجميع. اتبع تجسيد عنترة كما في الخيال الشعبي المصري والعربي، من حيث الملامح والصفات الجسدية، وهو ما يتم تمثيله ورسمه في الموالد الشعبية والقرى، الفنان الشعبي المجهول الذي احتفى بالفارس الذي يُشبهه، حافظ الرزاز على هذه الملامح، وجعلها قريبة من روح ووعي المتلقي، لتختلط البطولة هنا مع الملاحم الأخرى كسيرة أبي زيد الهلالي ومغامراته. وينم التوسل بالأسطورة هنا عن وعي الفنان الذي تفتح على حلم الستينيات وما تحقق خلاله من بعض مظاهر النهضة، وإن كانت النتائج أو العواقب بمعنى أدق جاءت شديدة الخيبة، وهو ما أدى لابتكار رمز خاص بالرزاز، هو رمزية (الطائر) وجعله الفنان أحد أهم ملامح أعماله التصويرية والنحتية، وقد استنّه أيقونة للأمل، وأصّل الأمر أكثر ليصبح كالتميمة الأسطورية في أعماله، ويقول الفنان نفسه عن ذلك :»خلال مشاركتي في حرب الاستنزاف، وجدت نفسى وقتها أرسم عصفوراً أخضر عملاقاً وسط الصحراء وبعدها حدث نصر أكتوبر المجيد، ثم عدت ورسمته قبل ثورة 25 يناير، ثم قدمته فى معرض مستقل فى 2013 للاحتفاء بشباب التحرير الأبطال، وهذا يجعلني أشعر بعودته بين لوحاتى مؤشراً لحدوث شىء مهم، فأنا أعتبر العصفور تميمة الأمل الأسطورية».
الحركة و الجو الصاخب
لوحات مصطفى الرزاز دائماً ما يلفها الجو الصاخب، بداية من اللون، مروراً بتكوينات الأجساد ــ أجساد الكائنات ــ وعلاقاتها بعضها البعض، وصولاً إلى مستويات تكوين الكادر/اللوحة، ما بين مقدمتها وخلفيتها. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى تبدو الكائنات دائماً في حالة فعل، فلا يوجد جسد ساكن، وإن كان في بعض الأعمال تأتي لحظات من التأمل للشخوص، إلا أن خلفية اللوحة لا تميل إلى السكون، بل لابد من حركة، هذه الحركة التي تشمل اللوحة ككل، وبغض النظر عن حالة الزخم اللوني، فحالة التضاد داخل اللوحة تشعر المتلقي دوماً بحالة الحركة التي لا تهدأ. تضاد في اتجاهات حركة الأجسام، أو اللون وما يقابله من لون آخر، كذلك الأشكال المتباينة من نقوش وزخارف ما بين تكوينات فرعونية شهيرة وحضورها في اللوحة ما مع يشبه موروثات السير الشعبية، كما في استحضار أبي الهول، لكنه يتماثل وحصان الفارس الشعبي، الذي يصوره المصريون فوق جدران بيوتهم في القرى، أو ينقشونه فوق أذرعتهم مثالاً على القوة والبطولة، وفي أعلى اللوحة الهلال يتوسط الراية الخضراء، وهي راية العلم المصري في العهد الملكي، هذا التواصل الزماني تؤكده الحركة التي تتحكم في عين المتلقي لاستكشاف عناصر التكوين في اللوحة ومحاولة اكتشاف العلاقات بين عناصرها، والحالة الدرامية التي تمثلها. الحركة أيضاً توحي بها الحالة السردية التي لا تخلو منها لوحة من اللوحات، هناك حكاية يمكن حكايتها، فلا وجود لتجريدات أو أفكار يصعب التعبير عنها بالحكي، ولك أن تؤلف من الحكايات ما تشاء عن كل لوحة، فالعمل يوحي بحالة من السرد الحكائي لا تنتهي.
التكعيبية والروح المصرية
لا تخطئ العين أن بعض اللوحات جاءت قريبة من أعمال بيكاسو الشهيرة، كما في لوحتي «آنسات أفينيون» و»غرينياك» ولكل منهما دلالة في تاريخ الفن العالمي، إذ يمثلان حالة قصوى من الثورية في الفن. هنا يستوحي الرزاز ما يشبه اللوحتين، ولكن في تكوينات وملامح وتفاصيل البيئة مصرية، من خلفيات تمثل مآذن المساجد التي تصبح متناغمة تماماً والفتيات المُبتهجات في مقدمة اللوحة، هذه اللوحة التي يعود تاريخها في نسختها الأولى إلى العام 1968. الحِس التكعيبي يظهر أيضاً في العديد من اللوحات، سواء في شكل البنايات التي دوماً تأتي في الخلفية، وكذلك الشخوص في المقدمة، وهي محاولة لمزج الأسلوب مع الموضوع الشعبي والأسطوري المصري.
محمد عبد الرحيم