معرض «عودة إلى المصنع» للفنان فتحي عفيفي: حلم الدولة الصناعية الضائع
[wpcc-script type=”d9e15dd258bd17912e96bf8c-text/javascript”]
القاهرة ـ «القدس العربي»: تعد فترة نهاية خمسينيات وستينيات القرن الفائت في مصر هي فترة الأحلام والمشروعات الكبيرة، فترة محاولة تحويل مصر من مجتمع زراعي إلى صناعي تقدمي. وكانت بالفعل هناك بوادر نهضة في العديد من المجالات لا ينكرها أحد، إلا أن سياسات القمع المتبعة من وقتها ــ وحتى الآن ــ والتي انتهت بهزيمة يونيو 1967، فلا أصبحت مصر دولة صناعية، ولم تعد دولة زراعية كما كانت، بل أصبحت سوقا استهلاكيا كبيرا. وفي العام 2016 يقوم الفنان فتحي عفيفي من خلال معرضه المعنون بـ «العودة إلى المصنع» المقام الآن على قاعة «أفق» في متحف محمد محمود خليل في القاهرة، باستعادة لحظات هذا الحلم، من خلال لوحات تفصيلية للعمل في المصانع الحربية. وقد كان لمنتجات هذه المصانع الكثير من السُمعة الجيدة في مجال الصناعة المصرية. فالرجل الذي كان عاملاً بالفعل في هذه المصانع منذ العام 1968 يبدي الكثير من الحنين إلى هذا المناخ، ويحاول استعادته بأدق تفاصيله، متذكراً علاقة الإنسان بالآلة، وعلاقات العمال بعضهم البعض، متذكراً وضعاً اجتماعياً ونمطا من الحياة لم تعد مصر تعيشه الآن. ربما تكون اللوحات وكأنها تذكارات لجيل مضى، أو اكتشافات للجيل الحالي، الذي لم يعش ذلك العصر، ويحيا في ظِل الأحلام المتضخمة، ضخامة الآلات نفسها.
حياة العمال
بداية يوم عمل، الورشة، الوردية، الراحة، المخزن، يوميات عمل، آلات وبشر، اللحاق بآخر مترو، هذه اسماء بعض اللوحات التي يتضمنها المعرض، والتي تبدو معظمها في أحجام كبيرة، تقترب من الجداريات، كذلك محاولة جمع عدة لقطات ليوم العمل في لوحة واحدة، وكأنها شريط سينمائي. حياة حافلة يستعرضها الفنان وكأنها توثيق ليوم في حياة العامل، حتى أن عفيفي يستحضر نفسه في بعض اللوحات كجزء من هذا العمل الكبير، أو هذه الحالة بمعنى أدق. اللعب على الذاكرة هنا هو السمة الغالبة على اللوحات، ليس لكونها من زمن قديم، ولكن من خلال ذاكرة لم تزل حيّة، يحاول الفنان القبض عليها قدر الإمكان، الرفاق من العمال وعالمهم الذي صار إلى زوال، يرفض حالة الزوال هذه، ويتغنى بما كان، ويحاول بعثه بشتى الطرق. فالحالة الإنسانية نلحظها في جميع اللوحات، ومظاهرها تتجلى في تكوينات اللوحة من حيث توزيع الكتل ومقدمة وخلفية اللوحة، لحظات الراحة والمساحات الخالية الدالة على ذلك بين الشخوص، بخلاف حالة العمل، حيث المسافات الضيقة، واحتلال الآلات للجزء الأكبر، ليبدو العامل أو العمال بينها في حركة دائمة ومستمرة. هناك الطقوس اليومية كوقت الطعام، أو لحظات التدخين المُختَلَسة. الآلة يمكن التحكم بها والسيطرة عليها، ولا يوجد فارق بين العمال وبينها، اللون والتكوين، كما أن زاوية الرؤية ووجهة النظر تجعل من الكل كتلة واحدة متماسكة. ولكن هذه السلطة التي يمارسها العامل على الآلة تنقلب تماماً عندما يتم استعراض لقطة لمدير المصنع وهو يراقب العمال، هنا تتجزأ اللوحة، فيصبح المدير بحكم منصبه في الجزء الأمامي الأعلى من اللوحة، يطل من علٍ على ساحة العمل، بحيث يتصدر جزء كبير من جسده اللوحة، وبينما يبدو العمال عبارة عن تكوينات لا ملامح لها، ورغم محاولات التكتل في ما بينهم، إلا أن المساحات الكبيرة الخالية تفسد هذه المحاولات تماماً.
الإنسان والآلة
هناك تقابل دائم ما بين الآلات الضخمة وحشود البشر التي تقف مقابلها، وكأنهم يتراصون لترويض هذه الآلات، حالة من الثقة تجمعهم، إلا أن فكرة المناخ الإنساني في العلاقات في ما بينهم، تختفي قليلاً لصالح الآلة، فهم يبدون كجزء منها، ويعملون في شكل آلي تماماً، هنا لا يتواجد الفرد أبداً، هناك مجموعات، الظهور الفردي يكاد لا يُذكر مقارنة بلوحات الاحتفاء بالحشود، هذه الطبيعة الآلية للمجموعات حتى في أوقات مغادرة المكان، أو التشابه في وسائل المواصلات، كموقف الدراجات الشهير، فقط تتباين هذه الحالة في أوقات الراحة، حيث يستشعر الفرد قيمة فرديته، التي تتجلى في تدخين سيجارة، أو لحظة مغادرة حجرة من حجرات العمل. الأمر لا شعورياً يتفق والمرحلة التي سنتخذها على سبيل التوثيق، تلك المرحلة التي أعلت من شأن المجموع والمشروعات الكبرى، وشعارات صاغت المفاهيم وساعدت على تنميط حياة الكثير من المصريين وقتها، فالكل في واحد والكل في سبيل بناء الوطن. قد تبدو لنا هذه المقولات الآن تثير بعض التهكم، خاصة وأننا نعيش النتائج، لكنها لذلك الجيل كانت حياة كاملة، تبدو قيمتها في نفوسهم كقيمة الحياة نفسها، مسألة وجود لا أكثر ولا أقل.
الأبيض والأسود
قليلة هي اللوحات التي جاءت في ألوان صاخبة، الأصفر ودرجاته، أو الأزرق والأحمر، إلا أن الغالب هو اللون الرمادي الذي يوحد ما بين العامل والآلة وأدوات العمل التي تتراص فوق طاولة العمل المعهودة. اللون هنا يأتي إما في فترات الراحة، أو ما يشبه الطبيعة الصامتة/المنظر الصامت لأدوات العمل الوحيدة فوق الطاولات، كحالة أخرى من استعراض حياة هذه الأدوات، والتي أصبحت جزءا أصيلا من شخصية العامل، وصولاً إلى مغادرة المصنع والخروج إلى الشارع، حيث الإيحاء بأضواء مصابيح أعمدة الإنارة القديمة، والإيقاع المختلف تماماً عن وتيرة العمل والحياة بين الآلات.
الحِس التلقائي
اللافت في أعمال الفنان فتحي عفيفي هو الحفاظ على الحِس والروح التلقائي في التعامل مع اللوحة، من حيث التكوين واللون والتصميم النهائي للحالة التي يريد إيصالها. هذا الحِس هو الذي يعمق حالة الإيحاء بالواقع ــ الإيحاء فقط، فهناك المبالغة ووجهة النظر الفنية، فلا وجود لواقع إلا من خلال المخيلة ــ والتي عاشها الفنان بالفعل، دون النظر والمتاجرة بحياة هذه الفئة الاجتماعية وهو واحد منهم بالفعل. هذا بدوره ينقلنا إلى الفنانين الذين حاولوا الانتصار لمثل هذه الفئات، ورغم شهرة أعمالهم، يبدو الطابع الأرستقراطي في تعاملهم مع هذه الأجواء وعوالمها، رغم نجاحهم الكبير في التعامل معها ومحاولة تجسيدها، إلا أنهم في النهاية ينتصرون ويتحيزون إلى أفكار وأيديولوجيات، أكثر من التعايش مع هؤلاء بالفعل، كأوساط العمال أو الفلاحين.
الفنان فتحي عفيفي .. من مواليد القاهرة عام 1950. حصل على دبلوم المدارس الثانوية الصناعية عام 1968، دراسات حرة في كلية الفنون الجميلة 1975. أقام العديد من المعارض الخاصة والجماعية داخل وخارج مصر، منها .. معرض في مدينة جريتس بالنمسا 1984، معرض في غاليري القاهرة/برلين 1996، بينالي هافانا الدولي 1996، معرض في متحف الفن المصري الحديث بالقاهرة 1997، بينالي القاهرة الدولي 1997، ومعرض الفن المصري المعاصر في رومانيا عام 2006. كما نال العديد من الجوائز، منها .. الجائزة الأولى بالاتحاد العام لنشء وشباب العمال 1981، وجائزة التحكيم الدولية لبينالي القاهرة الدولي السابع 1998.
محمد عبد الرحيم