معرض «فنون الواحات» في غاليري «دروب» بالقاهرة… الحِس التلقائي وتجسيد صوت الصحراء وإيقاعها
[wpcc-script type=”8a50d5c94ae846af2d806c49-text/javascript”]
القاهرة ـ «القدس العربي»:بعيداً عن صخب المدن وتوترها، وخطوات أصحابها المتسارعة، وألوانها الصارخة، ومن قلب الصحراء تأتي أصوات مختلفة، عميقة وبسيطة في الوقت نفسه. أصوات فنية تعيد إنتاج فنون بيئتها البعيدة، وتحاول إعادة الروح إلى فنون طالما مارسها الإنسان المصري طوال تاريخه الطويل، فن النحت والنقش، لكنه هنا لم يكن نقشاً على الأحجار، أو تمثيلاً وتخليداً لآلهة وملوك، فقط ما يشعرونه تجاه بيئتهم، من بيوت ودروب تحمل بصمات أرواحهم، فهي الأبقى وأصل وجودهم. ومن هذه البيئة يستمدون الخامات والخيال، النقش والنحت هنا يصبحان على جذوع النخيل، التعامل إذن مع كائن حي له مهابته وثقله في عالم الصحراء، ومن خلال روح الفنان، تصبح الجذوع بيوتاً ولوحات أشبه بالجداريات، وأدوات يستعملها الإنسان فيتحقق الفن بشقيه الجمالي والوظيفي، لنجده فناً مختلفاً في الأسلوب والسمات، ويعبر عن بيئة بعيدة عن عين مشاهدي المدن ــ تبعد الواحات حوالي 360 كم جنوب غرب القاهرة ــ وهو ما يضمه معرض «فنون الواحات» المُقام حالياً في غاليري «دروب» والذي سيستمر حتى السابع عشر من شهر تشرين الاول/أكتوبر الجاري. يضم المعرض أعمالاً لثمانية فنانين، هم: أم شاكر، سالم عبد الحميد، عبد العزيز الرسام، محمد عبد الجواد، محمود عطا الله، راتب كريم، يوسف عبد الحميد، ومصطفى عبد الجواد، المنسق العام للمجموعة، والمُشارك بالأفكار والعديد من التصميمات. وتبدو السمة الأساسية لهذه الأعمال أنها نتاج رؤية فنانين تلقائيين، لم يتلق أحدهم الفن في أكاديميات ومدارس فنية متخصصة، وهو ما يصبح شيئاً لافتاً، من حيث الاحساس الفني والحرفي الذي يمتلكونه، وفرادة التجربة الجمالية التي تميز كل منهم.
الحِس الجمالي
من خلال الأعمال المعروضة نجد التنوع، رغم الخامة الوحيدة التي يعمل عليها كل فنان على حدة، هناك بعض المحافظة على الأعمال التقليدية، كالخوص وأعمال الليف، لكنها في شكل أكثر حداثة عن مجرد الحِبال أو حاويات الطعام المعهودة، فهناك الحقائب على سبيل المثال، وبعض القطع الفنية الوظيفية، في تصميمات حديثة، تتمثل أشكالاً أكثر مواكبة للموضة. ما يفرض عليها اختلافها هو الحِس الجمالي الذي تتميز به، حالة من التوازن ما بين الشكل والتكوين. إضافة إلى ذلك نجد أدوات للإضاءة، والتي تعلّق بالأسقف ــ ما يُشبه الثريات ــ ولكن من خلال أشكال تراثية وتصميمات مختلفة عن السائد، من أجزاء مختلفة من النخيل، كالجذوع والألياف، إضافة إلى بعض القطع التجميلية، التي تتدلى لإضفاء مظهر جمالي، وهي من احدى النباتات التي تنمو في الصحراء. وتخلق المُقابلة بين هذا التصميم ومصابيح الكهرباء شكلاً جمالياً يختلف تماماً عن أشكال الإضاءة المعهودة.
النقش
تأتي فنون النقش على جذوع النخل ــ النقش البارز ــ أشبه بنقش الجداريات، وهو من أقدم الفنون المصرية، فالنقش هنا يتم من خلال سطح مستو، وبالتالي يُهيء الفنان الخامة ــ جذوع النخيل ــ وهو أمر أصعب من التعامل مع مادة الخشب بكثير، ذلك حتى يستطيع إتمام عمله الفني وفق مخيلته، هذه المخيلة تبدو أنها تدور في فلك البيئة وما تحياه، فالأعمال تشير إلى عدم التجسيد أو أي ملمح تشخيصي، فقط الاستعاضة بالمكان ومفرداته، حيث تكوين البيوت، الأبواب والشبابيك والأسطح، وأدق التفاصيل التي من الممكن مُطالعتها. وفي تصميم هندسي تبدو جمالياته في التبسيط، رغم وضوح وكثرة تفاصيل اللوحة أو الجدارية.
تمتد تقنية النقش وتمتزج بالخط العربي وأشكاله، ذلك من خلال لوحات تحمل العديد من الآيات القرآنية، التي توضع فوق أبواب البيوت من الخارج، وكأنها عبارة لابد من التوسل بها قبل الدخول إلى هذا البيت أو ذاك. لنجد آيات مثل {قل هو الله أحد}، {إن مع العُسر يُسرا}. وهو ما يتماشي ونظرة المصري في التدوين والنقش بالنسبة إلى النصوص الدينية الدالة، وهو بطبعه يتنفس ــ ولو من خلال لا وعيه ــ حضارة تقوم على النقوش الدينية منذ القِدم، فلم يغترب عنها وطوّعها لتصبح ديانته المألوفة الآن.
النحت
ومن خلال الأعمال والقطع النحتية، يسيطر الحِس بالبيئة، وتبدو البنايات وكأنها منحوتات جبلية، تصميماً ولوناً. وتدور الموضوعات ما بين البيوت المتعددة الطوابق، ودور العبادة، حيث القباب والمآذن، والتحوير بعض الشيء في الشكل التقليدي للعمارة الإسلامية، لتبدو أقرب إلى أشكال الفن القبطي، وهو امتزاج يبدو بلا تكلف أو عناء، وتنتفي عنه تقنية الصناعة أو القصد الفني. من ناحية أخرى نجد التصميمات ودقتها من حيث قواعد المنظور، سواء بالإيحاء بضغط المنظور، كما في أعمال النقش، نظراً لطبيعة السطح الذي يتم من خلاله تنفيذ العمل الفني، أو خلق مساحات متباعدة، أكثر عمقاً بالطبع في أعمال النحت.
إضافة إلى بعض المبالغات في أشكال البنايات الدينية، من حيث النِسب ما بين مسطح المبنى والمأذنة أو القباب الدالة على دار العبادة، هذه القباب بدورها تنتقل إلى البيوت، ولكن في تحوير يأخذ شكل الأقواس، سواء عند أبواب البيوت، أو الشبابيك. لكن البيت بأكمله يُشبه إلى حدٍ كبير بنايات العصر القبطي، من حيث الأعمدة والتكوين الشكلي العام.
المسألة لا تنحصر في مجرّد نقل حرفي لما يعيشه الفنان، بما أن معظم الأعمال مُستمدة من البيئة المحيطه به، يتضح ذلك من الفروق الأسلوبية في معالجة الموضوعات، وضم عدة عناصر تشكيلية مختلفة في العمل الفني الواحد، ذلك من خلال تقنية التحوير التي تبدو سمة غالبة على المنحوتات، والنقوش كذلك.
الحِس الديني وروح الصحراء
أكثر ما يميز الأعمال الفنية في المعرض هو مزج الفنان بين الفنون القديمة في إطار ديني، بداية من عدم التجسيد/التشخيص، وتحوير الأشكال والتصميم لتتداخل عدة أساليب فنية مرّ بها الفنان المصري طوال تاريخه. الأمر الآخر والأقرب إلى الحالة الفنية المسيطرة هذه، هو الوجود خلال الصحراء، والحِس بتواضع ما، بحيث تنتفي الذات، وتستشعر قيمتها الحقيقية من خلال البيئة المحيطة بالكامل، هنا لا نجد تمثيلاً لأشخاص، وتجسيداً لبطولات فردية، فقط أماكن نجح الإنسان في التواؤم والتأقلم مع بيئته والانتصار عليها ــ إنتصار رحيم بلا صلف ــ ذلك من خلال البنايات والأشكال التي تحكي حياته، الأمر أشبه بالمعابد القديمة، لكنها ليست لآلهة هذه المرّة، بل لبشر استطاعوا الحياة في بيئة قاسية، ومن خامة مثل النخيل، وهي بالنسبة إليهم تقترب من التقديس، روح قديم هو ما يحرك الفنان، ويجعله يمزجها بديانته الجديدة/الإسلام، دون أدنى تعارض أو تضاد، أو إحساس ما بالاغتراب! ومن الابتعاد التام عن حالة التجسيد هذه، يبدو خيال المتلقي أكثر تحرراً في تشكيل حيوات أصحاب هذه الأعمال وأهل هذه المناطق، وقد جسّدوا بيئتهم بكل هذه الدقة والإتقان، كأن تتخيل حكاية قديمة وتتصور كيفية تصرفات وسلوك أبطالها.
الإيقاع
ومن خلال هذه الروح يتولد إيقاع العمل الفني لدى جموع الفنانين المُشاركين، رغم اختلاف أساليبهم ورؤيتهم الفنية. حالة من الهدوء الشديد، وتكرار يتواتر في صمت لنقشٍ أو نحت. حالة من التأمل نستشعرها من خلال المنحوتات، وهو ما يوحي للمُشاهد بطبيعة ساكني هذي الأماكن. ورغم ذلك تبدو التفاصيل وزخمها في بعض المنحوتات بما يُشبه المناخات المتقلبة للصحراء. لا نبالغ إذا قارنا العمل الفني بالمقطوعة الموسيقية، مختلفة الحركات، والمتدرجة من البطء إلى السرعة، وكأنها ترشد عين الرائي لطبيعة الحركة والإيقاع الكامن فيها.
محمد عبد الرحيم