مقام الحب وآهات زكريا أحمد (2)
[wpcc-script type=”811335a66372ef3439be583b-text/javascript”]
تواصلاً مع مقالي السابق عن الشيخ زكريا أحمد، الذي أرسى قواعد للعمل الغنائي العربي، من دون تنظير وفذلكة، بل إنجاز استثنائي في مسار الغناء عموماً. كان قارئاً للقرآن ثم منشداً ثم ملحناً عبقرياً، بعد نضوج واكتمال علومه ومعرفته بالمقامات الموسيقية.
عام 1919 انطلقت رحلته في التلحين عبر شيخين منحاه التزكية اللازمة وقدماه لشركة الأسطوانات. 1931 انطلقت حنجرة أم كلثوم بروائع زكريا أحمد «اللي حبك ياهناه «، «عادت ليالي الهنا»، « الورد جميل «، «غنيلي شوي شوي»، ثم حملت فترة الأربعينيات أجمل الأعمال الطويلة « أنا في أنتظارك»، «الأمل» و»حبيبي يسعد أوقاته»والتحفة الفنية «أهل الهوى».
منذُ زمن تأسيس الدولة العباسية في بغداد ولغاية يومنا هذا كانت الندرة في من يخلق أعمالاً يتداولها الناس لتصبح في ما بعد تراثاً حياً، وكلما تمّر السنين يزداد تجذراً. في تونس كان الجموسي وهادي الجويني، وهكذا لكل بلد تجد عدداً قليلاً يحمل هذِهِ المسؤولية، عراقياً كان شيخنا المُلا عثمان أحد أقطاب التلحين الذي صنع للشعب العراقي والأذن في العموم، أجمل الأعمال التي أصبحت تراثاً مهماً مثل، «فوك النخل»، «زوروا قبر النبي يونس»، التي أصبحت «زوروني»، «يابن الحمولة»، «أشقر بشامة»، «ربيتك زغيرون حسن»، وعشرات الأغاني الجميلة. ومصريًا شيخنا زكريا أحمد، ابدع للمناسبات المختلفة «صلاة الزين»، و»يا حلاوة الدنيا»، «الليلة عيد»، وأغنيات أخرى أصبحت جزءا من هويتنا كشرق. كنت منذُ مدة ادّرس في ورشة عمل لخمسة وعشرين عازفا وعازفة من محبي العود في جزيرة كريت في اليونان، على مدى سبعة أيام، وكان الطلبة ينتمون إلى جنسيات مختلفة، ليس بينها جنسية عربية، وحين أردت أن أزرع في مسامعهم ربع الصوت ومقاماتنا العربية، لم أجد في الدراسات والتمارين التي ألفتها أنا أو غيري لآلة العود ما يمكن أن يكون أساسا لسلالم موسيقانا العربية الخاصة بنا، مع أنني أملك من التحدي الكثير، لكنني أذعنت لقدرة الشيخ زكريا أحمد في تأسيس بناء المقام لدى المتعلم، بدأت بمقام الصبا ليحفظ الطلبة منه «هو صحيح الهوى غلاب»، وأخذت مقام السيكاه لنعزف منه «الورد جميل»، ثم أخذنا من مقام الزنجران «يا حلاوة الدنيا»، كأنني فتحت لهم خزائن الشرق المطرزة بربع التون الذي ميّز موسيقانا ورسم هويتنا، رغم ضيق أحادية الصوت استطاع الكبار أن يبدعوا أعمالاً سيخلد بعضها.
حين طلبت من طلبتي البحث عن الشيخ زكريا أحمد وكيفية كتابة اسمه باللغة الإنكليزية ليبحثوا عنه وعن أعماله التي تصل إلى أكثر من ألف لحن كلها في الغناء، ومنها 65 أوبريتاً، بلغتهم بأنه بذلك يعتبر الأغزر إنتاجاً ونوعاً للمسرح وللأغنية، علماً بأن معظم أعماله حققت نجاحاً وانتشاراً، وبذلك تأسس طريق المجد للأغنية ولزكريا أحمد.
حديثي عن الشيخ زكريا أحمد ليس من باب الاحتفاء برمز كبير من رموزنا فقط، بل من منطلق قناعات مبنية على منطق ودراسة لمنجزه الكبير، الذي لا يدانيه أحد في سجل ملحني الوطن العربي، كون إبداعاته لم تكن متأثرة على الإطلاق بأي ثقافات أخرى، ولا حتى المشايخ الذين تتلمذ على يدهم، ويلتقي في هذا المسار مع الموسيقار رياض السنباطي، المؤثر الوحيد كان البيئة العربية المتعددة الأديان، الشيخ زكريا بحث عن ضوء الشرق، والنور في القرآن، وفي العمارة والصوفية لدى الأقطاب، ومنها أسس قيمه الجديدة التي تعد نفائس في ذاكرة وسجل الشرق العربي.
أخاطبك حفيداً يحب فيك المستحيل الذي أنجزته مع شاعرك الأوحد بيرم التونسي، لم تتركا خاطرة في الغناء إلا وتحولت معكما الى قالب غنائي ساحر. كلما درست خطوط بصمتك يا شيخ الطرب أجد فيها البساطة المستحيلة. أكنت تعلم أن 6 يناير/كانون الثاني 1896 يوم صرخت أول صرخة خارج رحم الأم كانت جرس ميلاد مشروع لصانع تراث أمة، ومؤسسا لزمان لحني خرج من تحت عباءة الشيوخ لتصبح عباءته ظلاً وارفاً لكل من جاء بعدة.
لم أشأ أن أعدد أعمالك وأدوارك والطقاطيق والأعمال المسرحية، لأن هناك الكثير من الكتب تحمل إنجازاتك، أردت أن أخاطبك من مقام الحب، هذا المقـــام الذي كتبت فيه أروع ما قيل.
كن مطمئناً لخلودك ولأجيال قادمة، كلما تطوّر فن الغناء زاد اعتراف المعنيين والعارفين بقدرتك المتولدة من رحم النيل وواديهْ وثقافته. أنت شيخنا الأكثر شباباً… شيخنا الأكثر عمقاً وتجدداً.. لم تكن قريباً من شعر الفصحى.. لكنك أعطيت للعامية فصحى أخرى، بل استطعت أن تعممها ببساطة متفردة. كنت تتجول في شوارع القاهرة مفلساً ولكنك وفي الوقت نفسه تملأ الآذان غنى كبيراً.
كان صوتك أجشا وغير صالح للغناء، ولكن لم يختلف على حب صوتك اثنان، نجحت بطريقة تقطيعك الحروف وبالصدق الذي يقف وراء كل كلمة لحنتها وأديتها حتى كنّا نبحث عن الأغاني بصوتك لا بصوت أشهر وأجمل الأصوات التي غنت ألحانك.
لقد مرّ على رحيلك قرابة النصف قرن، ومازالت الآهة تحبس الآهة في صدورنا… مازلنا نتوه في سجالاتكما أنت وبيرم التونسي ابن الأرض الآخر، لكما أم واحدة هي الأرض…. وكان عطاؤكما نهراً ذا بريق لا يخبو…
نهر يجرفنا بطهر نقائه وبشدة ارتباطه بالوجوه السمراء والسنابل المذهبة.
موسيقي عراقي
نصير شمه