من التجربة الفردية إلى نتائج الفعل الاجتماعي: الصوفية… البحث عن الوجه الناعم للإسلام

القاهرة ـ «القدس العربي»: التصوف هو حالة إدراك المُطلق بالحدْس، دون العقل أو المنطق، هذا من الناحية الفلسفية، أما السلوك الذي يجب على المتصوف التحلي به حتى يصل أو يحاول الوصول إلى هذه الحالة فيكمن في الزهد وقهر الذات، حتى تتناغم النفس مع الكون، كمحاولة للوصول إلى المطلق.

من التجربة الفردية إلى نتائج الفعل الاجتماعي: الصوفية… البحث عن الوجه الناعم للإسلام

[wpcc-script type=”9342add82f646b862b7d3036-text/javascript”]

القاهرة ـ «القدس العربي»: التصوف هو حالة إدراك المُطلق بالحدْس، دون العقل أو المنطق، هذا من الناحية الفلسفية، أما السلوك الذي يجب على المتصوف التحلي به حتى يصل أو يحاول الوصول إلى هذه الحالة فيكمن في الزهد وقهر الذات، حتى تتناغم النفس مع الكون، كمحاولة للوصول إلى المطلق.
هذا من وجهة نظر أقطاب الصوفية الكبار، أما الطرق الصوفية فلديها رؤى مختلفة، تكاد تتفق في ارتباطها الوثيق بالسلطة الحاكمة في هذه المنطقة أو تلك، وهو ما لفت النظر إلى استغلال هذه الطرق ومريديها لتصبح تحت رحمة الساسة والحُكام.

من الواقع إلى الفلسفة

في أول نشأتها كانت الصوفية ردة فعل لانغماس الناس في ملذات الدنيا، وما صاحب ذلك من تنافس وصراعات، فكانت العزلة والهروب من الواقع هي الحل الأمثل لأصحاب القلوب المؤمنة، أمام بؤس الواقع من وجهة نظرهم. وبذلك وفرت الصوفية الحماية الأخلاقية والروحية لأصحابها.
ومع تعاظم أدوارها تحولت إلى مدرسة تربوية لمجاهدة النفس وإعادة تشكيل الشخصية وجدانياً، وفق النموذج الذي رسمه مشايخ الطرق، وطريق الوصول إليه عبر درجات ومقامات وأحوال متفاوتة.

من الفلسفة إلى الواقع

ولكن رغم استناد الطرق الصوفية على الأسس نفسها التي قام عليها التصوف (الزهد والمحبة والمعرفة والولاية)، والحديث دوماً عن الحد الفاصل بين الديني والسياسي، إلا أن الواقع ينفي ذلك.
فالتصوف ظهر فى البداية كحركة سياسية وليست دينية، ومنذ نشأتها منغمسة في الأحداث السياسية ومرتبطة بالحاكم السياسي والقوى السياسية، فنشأتها ترجع إلى تطور النظام الإقطاعي الذي دعم وجودها وبنى لها الأربطة والخانقاوات والزوايا وأنفق عليها اتقاءً لأي ثورة ــ النشأة هنا خاصة بالطرق، وقد تحول الفعل الفردي إلى فعل اجتماعي يقوم على الجماهير ــ فالسلطة في العالم العربي تعرف كيف تستخدم حركة مثل الصوفية لها ملايين الجماهير، لا تتحرك إلا بإشارة من شيخ الطريقة، الذي له سلطة شبه مطلقة على مريديه.
وهي آفة عربية استنتجها «ابن خلدون» في مقدمته إذ يقول «إن العرب لا يحصل لهم الملك إلا بصبغة دينية من نبوة أو ولاية أو أثر عظيم من الدين على الجملة، والسبب في ذلك أنهم لخلق التوحش الذي فيهم أصعب الأمم انقياداً بعضهم لبعض للغلظة والأنفة وبعد الهمة والمنافسة في الرياسة، فقلما تجتمع أهواؤهم».

تاريخ طويل من التواطؤ

الحديث هنا ليس عن التجارب الصوفية الخاصة، التي يخوضها الأفراد كمحاولة للوصول إلى المطلق، ولكن عن طرق لها هيكل تنظيمي يقترب بشكل أو بآخر من التنظيم السياسي والإداري للدولة. ولهذه الطرق تاريخها الطويل مع السلطة والأنظمة الحاكمة. ففي حالة مصر، على سبيل المثال، بدأت هذه المهادنة منذ عهد صلاح الدين الأيوبي، الذى أرسى دعائم الصوفية فى صعيد مصر ليواجه به التشيّع, بينما سعى محمد علي في ما بعد إلى دعم الطرق الصوفية حتى تسانده ضد علماء الأزهر. ومن المفارقة أن نجد أن أول مَن أسس مجلساً أعلى للطرق الصوفية، واختار لرئاسته مَن سمّاه «شيخ مشايخ الطرق»، كان اللورد كرومر، المعتمد البريطاني لدى مصر بعد احتلالها فى ثمانينات القرن التاسع عشر.
وحديثاً كانت أكبر مسيرة صوفية لتأييد عبد الناصر، حتى يعدل عن قرار التنحي عقب هزيمة 1967. وفي مايو/أيار 1979 صدر العدد الأول من مجلة «التصوف الإسلامي»، حيث أطلقت على «السادات» لقب «الرئيس المؤمن»، الذي ظل لصيقاً به حتى مماته. وحرصت المجلة نفسها فى أعدادها الحديثة على تجديد البيعة للرئيس المخلوع مبارك مع كل دورة من دورات تجديد ولايته، (راجع «الصوفية فى مصر.. طريقة ومجتمع».. نوران فؤاد ـ دار الهلال).

في مواجهة العدو المُشترك

فرض تهديد الجماعات الإسلامية المتشددة للدولة ضرورة التحالف بين الصوفية والنظام الحاكم، فإلغاء كيان الدولة كما كانت تريد هذه الجماعات، وتأسيسها دولة إسلامية، كان سيؤدي بالضرورة لإلغاء كل المظاهر والممارسات الصوفية (الموالد/زيارة الأضرحة)، وهي التي تعتبرها هذه الجماعات بدعاً دخيلة على الإسلام. فكان التحالف غير المُعلن بين الصوفية والنظام، فوجود مُريد من مُريدي أي طريقة صوفية، يُطمئن النظام إلى عدم انضمامه إلى جماعة مُتشددة.
من ناحية أخرى كانت الطرق الصوفية تنال اعترافاً رمزياً، يتمثل فى حضور شخصيات بارزة في الدولة للموالد الكبيرة، كخيمة ينصبها الحزب الوطني الديمقراطي الحاكم وقتها، ومرشحو مجلس الشعب، الذين يقومون بزيارة الموالد كجزء من دعايتهم الانتخابية في عهد المخلوع، (راجع «الموالد والتصوف في مصر» نيكولاس بيخمان ـ المركز القومي للترجمة). فالنظام السياسي الحاكم في مصر أنشأ المؤسسة الصوفية، وساعدها على الاستمرار والنهوض، حتى وصلت إلى شكلها الراهن، وذلك من أجل تثبيت شرعيته السياسية، متخذاً التدين الصوفي أداة في مواجهة التدين الحركي (جماعات جهادية/إخوان) الذي يعارض النظام.

الوجه الناعم للإسلام

بعدما كشف الإسلام عن وجهه الجهادي، تجاوزت علاقة التصوف بالسياسة من المستوى المحلي إلى العالمي.
فالجماعات الإسلامية المتشددة والمتطرفة أصبحت تمثل خطراً كبيراً على المجتمعات الغربية، فبدأت هذه المجتمعات تبحث عن نمط للتدين الإسلامي يخلو من العنف ويسمو بالقيم الروحية، ووجدوا في التصوف ضالتهم.
وكانت أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001، التي دفعت الولايات المتحدة لإمكانية تعميم الصوفية، بحيث تصبح هي الشكل المثالي والمستقبلي للإسلام، لتحل محل التنظيمات السياسية المتطرفة، التي أنتجت تنظيم «القاعدة» وأمثاله، أو على الأقل تحد من وجود وفعالية هذه الأنظمة، بعدما خرجت عن الدور المرسوم لها، فرأت الولايات المتحدة أن بإمكان الصوفية أن توائم بين الإسلام وبين قيم الديمقراطية وبين التصور العلماني في فضائه الواسع، ومن ثم احتضنت هذا التصور، فكانت جهود بعض المنظمات في الولايات المتحدة لجعل التصوف هو النمط الديني السائد في العالم الإسلامي مُستقبلا، وذلك في إطار حملتهم الشاملة على الإرهاب.
(راجع «الصوفية والسياسة في مصر» عمار علي حسن ـ مكتبة الأسرة)، فأصدرت مؤسسة راند الأمريكية للأبحاث تقريرها عام 2007 ، الذي رصدت خلاله الصراع الغربي مع العالم المسلم وحركاته السياسية، معتبراً أن هذا الصراع لن يتم حسمه عسكرياً بل ثقافياً، ومُطالباً في الوقت نفسه بالتعامل مع مَن سماهم بـ»الإسلاميين التقليديين» وعرّفهم بأنهم الذين يقبلون بالصلاة في الأضرحة والقبور، في إشارة واضحة للتيار الصوفي.
كما عقد معهد نيكسون للدراسات الإستراتيجية مؤتمراً عام 2003 ودعا إليه باحثين من مختلف أنحاء العالم الإسلامي لمناقشة هذه الفكرة، ثم عاودت الولايات المتحدة الأمريكية وعقدت مؤتمراً في 2008 ودعت إليه مشايخ من كل أنحاء العالم الإسلامي لدراسة هذه الفكرة، وإنتاجها على أرض الواقع.
وليس أدل على ذلك مما حدث في القاهرة في أغسطس/آب 2010، حيث اجتمع 16 شيخاً من شيوخ الطرق الصوفية مع سكرتير السفارة الأمريكية ممثلاً للإدارة الأمريكية، وتمت مناقشة التنسيق بين الطرفين بأن تستضيف الإدارة الأمريكية على نفقتها شيوخ الصوفية لنشر الإسلام الصوفي المعتدل بين المسلمين الأمريكيين.
كما أكد أحد مشايخ الطرق ممن حضروا الاجتماع على أن نموذج الإسلام الصوفي يمثل الإسلام المقبول والمُرحب به في أمريكا، لكونه إسلاماً وسطياً معتدلاً. وأكد شيخ آخر على متانة العلاقة بين الصوفية والشعب الأمريكي (راجع جريدة «المصريون» بتاريخ 3/8/2010).
الأمر لا يقتصر على الولايات المتحدة فقط، بل يمتد إلى الغرب عموماً، الذي يتعامل مع الحركات الصوفية في العالم الإسلامي، باعتبارها جماعات سياسية وظيفية، يجب دعمها وتقويتها بهدف ضرب التيارات الإسلامية المتشددة، التي أصبحت تمثل لهم الخطر الأكبر على أنظمة مجتمعاتهم وحضارتهم، والتي رعت هذه التيارات المتشددة في مهدها، وتعيد الكرّة الآن مع وجه جديد، يستمع إلى الموسيقى ويُنشد الأناشيد، ويسير في ركب ولي الأمر، ويدعو له بالتوفيق على الدوام.

محمد عبد الرحيم

Source: alghad.com

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *