من خلال أعمال تشكيلية حديثة … المرأة كـ «ذات» و»موضوع» من وجهة نظر الفن التشكيلي المصري
[wpcc-script type=”e16f337f132dcd829bed0c02-text/javascript”]
القاهرة ـ «القدس العربي»: ستظل المرأة دوماً أحد أهم مصادر الفن بوجه عام، والفن التشكيلي خاصة، فالفن كما الحياة وأصدق يدين للمرأة كوحي، وتدين له بالخلود. ومن خلال التجارب التشكيلية العديدة التي تتواتر على معارض القاهرة المختلفة في الآونة الأخيرة، والتي تجعل من المرأة موضوعها الأوحد، نتوقف أمام تجربتين، أولهما للفنانة «جيهان خورشيد»، والتي جاء معرضها تحت عنوان «تداعي حُر»، والتجربة الثانية جاءت بعنوان «المرأة في عيون الفن»، وهو معرض جماعي ضم ما يُقارب الثمانين فنانا، سواء الهواة منهم أو المحترفين.
هذا العدد الكبير من الفنانين حاول أن يخلق امرأة هواه أو خياله إذا جاز التعبير، في عمل فني يُجسد رؤيته الجمالية، ذلك من خلال مدارس تشكيلية وأساليب فنية مختلفة. نذكر منهم على سبيل المثال … شريف عبد القادر، عبد الفتاح البدري، عمرو العطار، أميمة السيسي، ابتسام سالم، ريهام طاهر، شعبان عيد، عبد الوهاب العراقي، إبراهيم عباس، أميرة علاء، غادة مصطفى، أحمد عبد الله، ثريا حامد، رانيا عبد المحسن، لمياء مهدي، سيد جادو، شفق الوكيل، ولمياء وفيق. وقد أقيم كل من المعرضين في أتيليه القاهرة.
تداع حُر
حاولت الفنانة «جيهان خورشيد» في لوحاتها، والتي ينتمي أغلبها إلى المدرسة الكلاسيكية، مع بعض لمحات من التأثيرية، أن تستعرض نساء مختلفات، الاختلاف هنا يبدو طبقياً بالأساس، نساء الحارات الشعبية، وأخريات من طبقات أرقى. وما بين العالمين العديد من الفوارق، سواء على مستوى التقنية أو الرؤية. على سبيل المثال .. تبدو المرأة الشعبية في ألوان زاهية وحارة، كاللون الأحمر ومشتقاته، كما أنها تمتلك الجرأة لتبدو في مواجهة المُتلقي، بالجزء الأكبر من جسدها، سواء تقف بشرفة منزلها وتقوم بفعل منزلي مُعتاد، أو تتشح برداء وكأنها تقف أما مرآة. هنا يبدو الجسد في حالة اكتمال أو يكاد، إضافة إلى قوة ملامح وجهها، ذلك يأتي على النقيض تماماً من نساء الفئة الأعلى، معظمهن في ألوان مُحايدة وباردة، والظاهرة اللافتة أنهن يعطين ظهرهن للمُتلقي، ولا يصبح جسدهن يحتل المساحة الأكبر من اللوحة، هناك مساحات شاسعة أمامهن، رغم وجود الجسد في مقدمة اللوحة، وقد يوحي هذا بثقل ما، إلا انه ثقل خادع، فالفراغات والمساحات والتكوينات الأخرى .. السماء، المنازل البعيدة، الألوان المتداخلة، والتي تمثل خلفية اللوحة، توحي بنوع من الخوف أو الارتباك الذي تهابه هذه المرأة. وقد يبدو أنها في حالة مواجهة، بما أنها تعطي المتلقي ظهرها، وهو أمر مُتعارف عليه في التكوين، أنها لا تهتم بما يحدث، وتنظر إلى مستقبل، حتى لو كان عبارة عن ألوان متداخلة، لا توحي لها بأي شكل من أشكال اليقين.
هذا ما أوحت به اللوحات، والأمر انطباع أكثر من كونه تفسيراً للعمل الفني، إلا أن المقارنة حتمية ولا مفر منها، ذلك لاختلاف الرؤية والأسلوب وتقنيات التنفيذ المتباينة. هنالك عالمان وأسلوب يغلب عليه التعبير الكلاسيكي يجمعهما. من السمات الغالبة والمتميزة في أعمال خورشيد هو المساحات التي تخلقها للنور، كمصدر أساس في اللوحة، والذي يخلق نوعاً من التباين، خاصة في حالة الألوان القاتمة التي تبدو مساحتها أكبر في اللوحة، وهو تباين محسوب إلى حدٍ كبير. وفي الأخير تبدو الأعمال في مُجملها انعكاس لذات فنية، مُضطربة إلى حدٍ ما بين عالمين، عالم تعيشه بالفعل، وآخر تحاول تمثله والانتصار إليه، ولو من خلال عمل فني.
المرأة كموضوع
«المرأة في عيون الفن» عنوان كبير يصلح لأن يستظل به العديد من الفنانين، ولتصبح المرأة هي الموضوع الذي تدور حوله هذه الأعمال. ونظراً لتعدد الرؤى والأساليب والمدارس الفنية في معالجة موضوع أثير في الفن التشكيلي، فقد أتى المعرض كساحة كبيرة لاستعراض هذه الجماليات المتباينة، سواء على مستوى الهواية أو الاحتراف، وصولاً إلى التقنيات الفنية.
بداية من الجيد أن يتشارك الهواة إلى جانب محترفين ــ المقارنة مغلوطة فكل فنان يعتبر هاوياً مدى حياته ــ إلا أن الأمر يتعلق بعدد المعارض التي أقامها الفنان، أو الدرجة العلمية الحاصل عليها، وكل ذلك لا يمت للفن بشيء، إذن فليُطلق عليهم هواة، إلا أننا نجد ان أعمال بعض هؤلاء الهواة جاءت أصدق تعبيراً وتدفقاً، وتحمل شحنة فنية تنتقل إلى المُتلقي في بساطة لا تخلو من عمق، بغض النظر عن أعمال بعض المُحمّلين بالنظريات الأكاديمية، والتي يفقد التكلف أعمالهم براءة الفكرة وصياغتها في لوحة، هي بالأخير عمل فني يُخاطب المُتلقي في المقام الأول، دون أي ميول استعراضية. وتأتي الأعمال لتنحو نحو العديد من المدارس المختلفة، من تعبيرية وتكعيبية وتأثيرية، وصولاً إلى التجريد وتقنيات الكولاج، كذلك بعض الأعمال النحتية، فلم يقتصر المعرض على أعمال التصوير.
التقليد
العديد من الأعمال جاءت أشبه بالتدريبات وتقليد أعمال أخرى تعد من كلاسيكيات الفن التشكيلي ــ لا نفرّق بين هاوٍ ومحترف ــ فالموضوع عن المرأة، إذن فلتكن امرأة كيفما اتفق، هذه هي السمة الغالبة على الأعمال، أصبح الموضوع هو البطل، وتوارت الذات الفنية، وكادت تنعدم. وهي سمة غالبة في المعارض الجماعية التي يُقيمها اتيليه القاهرة في الآونة الأخيرة، الكم لا الكيف، هو ما يعتمده في معارضه المتواترة، هذا بخلاف طريقة العرض السيئة، كالمساحات الضيقة بين اللوحات المعروضة، والإضاءة التي تشوّش الرؤية.
البيئة
لكن من ناحية أخرى، يبدو التنوع في الأعمال هو أحد أهم ملامح المعرض، هناك استعراض لنساء من بيئات مختلفة، الحواري الشعبية، البدو، السواحل، ونساء الجنوب، إضافة إلى الفئات المختلفة لهؤلاء النسوة، والكشف عن وضعهن الاجتماعي، والعالم الذي ينتمين إليه، هناك النساء العاملات/الفلاحات، أو البائعات في الميادين، وربّات البيوت، كذلك الأرستقراطيات وعالمهن، وهناك أعمالاً جاءت لتمثل نساء لا ينتمين للبيئة المصرية على الإطلاق، نساء مُنتحلات من عالم أوروبي قديم، قد نطالعهن في القرن التاسع عشر على سبيل المثال. ومن بين هذه الأعمال نجد لوحة تقتدي وتقلد لوحات المستشرقين عن نساء الشرق!
الابتكار
لم يخل الأمر من بعض الأفكار المُبتكرة، وتمثل المرأة في شكل غير معهود أو دال من حيث التكوين البصري للوحة. كأن يتمثل عالم المرأة من خلال عالم الطبيعة الصامتة، فـ (القُلَل الفخارية) التي توضع على حافة شرفات المنازل ــ كان هذا منذ زمن ــ تصبح في تكوينها كالنساء، وفي وضع متباهٍ وراقص، وأسفل الشرفة يبدو العديد من الرجال في حالة انتظار وتطلع إليهن، هذا المزج ما بين تجريد دال، وتجسيد ذكوري، خلق مفارقة ساخرة للموضوع، فلا وجود لامرأة في صورتها المعهودة، ولكن دلالتها أكبر من وجودها في نفوس وعيون عشاقها المنتظرون في صخب شديد. ومن حالة الصخب هذه تأتي على النقيض لوحة أخرى، أكثر هدوءاً وتوحي بالتأمل الشديد، فالفنان اتخذ من (لمبة الجاز) موضوعاً أنثوياً، ومن خلال الاستدارات والمنحنيات التي تمثل الجسد/جسد اللمبة، والشعلة الخافتة والضوء الذي يشب منها على استحياء، والزجاج المُنتفخ، والرقبة المرتفعة، هنا يصبح الجسد مُكتملاً، ليوحي بدلالته إلى جسد المرأة وتكويناتها، بل وتفصيلاته أيضاً، فالعمل الفني هنا هرب في ذكاء من التمثيل ــ تمثيل الموضوع أو الإيهام ــ وكذلك التجريد، والإبهام، ليصبح اللعب على المجاز، والتأويل، دون الاقتصار على التشبيه في صورته النمطية.
محمد عبد الرحيم