من خلال ثلاثة معارض تشكيلية … الحياة المصرية من وجهة نظر تشكيليات بين أيام العهد الملكي وصخب الطفولة الأنثوي
[wpcc-script type=”8fcfa4c14c9c5d9a5d4c1872-text/javascript”]
القاهرة ـ «القدس العربي»:أقيم تزامناً في القاهرة ثلاثة معارض لتشكيليات مصريات من أجيال ومدارس فنية مختلفة. إلا أن ما يجمعهن هو استعراض الحياة المصرية من وجهات نظر مختلفة، من حيث الرؤية والأسلوب والتقنية الفنية. إضافة إلى أن هذه الحياة التي يتغنين بها أصبحت جزءا من تاريخ منسي، يُشارك الجميع الآن في طمسه، كحالة عامة من تواطؤ موصوم. المعرض الأول للفنانة مريام واصف، وجاء تحت عنوان «ذكريات مصرية»، مُقام في قاعة «صلاح طاهر» في دار الأوبرا المصرية. وتحاول من خلاله واصف أن توثق لأشهر بنايات القاهرة، وتستعرض طقوس وإيقاع القاهرة في عشرينيات القرن الفائت. والمعرض الثاني يأتي بعنوان «حواء» للفنانة أمينة سالم، والذي أقيم في غاليري «بيكاسو»، حيث تتخذ الفنانة من المرأة الشخصية المحورية لجميع أعمالها، واللافت أن سالم هي أصغر الفنانات سناً، إلا أنها لا تستوحي المرأة إلا من خلال حالة الحرية القصوى التي كانت تتمتع بها وتتنفسها في الأربعينيات وما قبلها، ولا تلتفت على الإطلاق للمرأة المصرية في اللحظة الراهنة. وآخرهن الفنانة هيام عبد الباقي، والتي أقيم معرضها في غاليري «أوبنتو»، حيث تستعرض المرأة في لحظات حياتها المختلفة، من طفولة إلى شيخوخة، لكن روح الطفولة والحرية واللعب هو ما حاولت الفنانة إظهاره، من خلال مظاهر وطقوس شعبية إلى حدٍ كبير. فالمرأة هنا تحاول أن تكون في صورتها التي ترى فيها نفسها وتتخيلها، بعيداً عن واقع يحاول فرض تعاليمه ومفاهيمه الذكورية القاصرة عليها.
قاهرة مريام واصف
لا تجد الفنانة مريام واصف سوى قاهرة العشرينيات، المتمثلة في بناياتها ذات الطراز الأوروبي، لتحاول بعثها في لوحاتها كما كانت وقت زمنها، الأمر أشبه بحالة توثيق للحياة المصرية من خلال هيبة وجمال هذه البنايات. سواء بنايات وسط المدينة الشهيرة، أو ضاحية مصر الجديدة. مناخ آخر يختلف تماماً عما تعيشه القاهرة الآن من تلوث بصري وسمعي، وهو ما يتأكد من خلال الإيقاع العام للحياة وقتها، والذي نجحت الفنانة في تجسيده عبر لوحاتها إلى حدٍ كبير. فاللوحات لا تقتصر في أن تكون مجرد لوحات لطبيعة صامتة أو مبان صمّاء، بل أصبحت تجسيداً لإيقاع ذلك العصر. من ناحية أخرى اتسمت الأعمال بحد أدنى من حالات التشخيص، التي تتوافق وطبيعة هذه الأماكن. كعازفي الموسيقى، أو بائعي المثلجات، إضافة إلى مفردات ذلك الزمان … كالمصوّر الفوتوغرافي الجوال، سائق الحنطور وعربته. كذلك نجد أن اللقطات العامة هي التي تغلب على اللوحات، هناك حالة من الاحتفالية والاستعراض في تجسيد المشهد العام للزمن المُحتفى به، حالة من استعراض الهيبة، المباني وأماكنها المحيطة بها، والناس حولها فرادى، هناك هدوء وإيقاع مفقود تحاول الفنانة تجسيده والتذكير به على الدوام. ولا يمكن إنكار حالة الأسى على هذا العالم، وهذه الحياة التي كانت، عند عقد مقارنة بسيطة بين ما كان وما هو كائن الآن.
نساء أمينة سالم
امرأة مصرية من الأربعينيات تقرأ جريدة «الأهرام». هذه إحدى اللوحات المُعبّرة عن عصر كان. وأيقونة العَلَم والتاج المصري وقتها تزيّن اللوحة. نساء يرتدين التنانير القصيرة، وجلساتهن ووضعهن الجسدي يتنفسن ثقة شبه مُطلقة، ثقة مسؤولة عن أفعالهن. ومن هنا تتواتر اللوحات وما تفكر به كل هؤلاء النسوة، ولحظات حياتهن الفارقة، سواء التعبير عن الحب أو الحياة. ليأتي المزج ما بين اللون والعبارات المكتوبة ليتكتمل حالة دائمة من حالات الحب بمعناه الأشمل. بداية يسيطر اللون الأحمر على كافة اللوحات، وما يحمله من دلالة حسية قوية. إضافة إلى الألوان الحارة المُكملة للوحة، سواء كخلفية لها، أو في تفاصيلها. من ناحية أخرى نجد عبارات لأبيات شعرية تؤكد حالة صاحبة اللوحة ــ الشخصية المرسومة ــ أو بعض عبارات من أغنيات (أم كلثوم) الشهيرة.
وهناك لوحة خاصة لأم كلثوم، ومن هنا تختار أمينة سالم نساء قويات وسَمنَ العصر باسمهن، كأم كلثوم وفريدا كالو وكليوباترا. من ناحية أخرى نجد احتفاء شديدا بالجسد الأنثوي، وتجسيده في مختلف حالاته، من وحدة وحلم وحب ووله. هنالك ملمح أرستقراطي لا يمكن إنكاره في وجهة النظر إلى هؤلاء النساء، أو بمعنى أدق في رؤيتهن للعالم، هذا العالم الذي اختفى الآن بدوره، وكأنهن احتفظن به بينهن ــ رغم الاحتفالية في اللون والحركة والتكوين الجسدي، هناك حالة وحدة شديدة كامنة ــ ويحاولن قدر الإمكان الاحتفاظ به والحفاظ عليه. لحظات الأسى هذه تتكشف في تعبيرات الوجه أو لفتة عَرَضية وإيماءة مقصودة. ومن حيث التقنية نجد الألوان الزيتية هي الأساس، بينما تشترك في بعض اللوحات تقنية الكولاج من مواد أخرى، يتم استخدامها في دقة محسوبة تماماً، سواء في خلفية اللوحة، أو في أردية الفتيات ــ بذلات الرقص على سبيل المثال ــ وذلك في تضافر تقني ولوني أضاف إلى عالم اللوحة الكثير من تعميق الرؤية ودلالتها بالنسبة إلى المُشاهِد.
صخب هيام الأنثوي
تواصل الفنانة هيام عبد الباقي تأكيدها على الروح الثوري، الذي تجلى في واضحاً في معرضها السابق في العام الفائت ــ طالع مقالنا بجورنال «القدس العربي» عدد (7893) بتاريخ 11 تشرين الاول/أكتوبر 2014 ــ وإن كان هذا الروح تجسد من خلال ثورة 25 كانون الثاني/يناير وقتها، إلا أنه الآن يأخذ منحى الاحتفال بالأنوثة، وتجسيد لحظات الحرية التي تحلم بها المرأة، خاصة المرأة العادية التي لا تتصدر الصحف أو تظهر بوسائل الإعلام. المرأة المصرية على العموم … فلاحات أو بدويات. تحاول عبد الباقي إزالة الصورة النمطية لهؤلاء النسوة من وعي المُتلقي، وتخلق عالمهم في حالة من التحرر، كما ترى كل واحدة نفسها وما تحلم به، لا كيف نراها نحن. وتحافظ الفنانة على الجو الاحتفالي والصخب الدائم الذي يتسم به أسلوبها. المرأة في المولد والسوق والأرض، حشود كبيرة من النساء على اختلاف أعمارهن، من الطفولة وألعابها إلى الأنوثة المُكتملة وقصص الحب، وصولاً إلى الأمومة والعودة مرّة أخرى إلى حالة طفولة. هذه الدائرة تتطلب جواً صاخباً، لا ينتهي حتى يبدأ من جديد، حياة مُستمرة لا تتوقف، أو حلما دائما تقبض عليه الفنانة في ثقة شديدة. ونظراً لأن هذا العالم يعبّر عن فكرة واحدة ويأتي في تنويعات لها، فإن توزيع الشخوص في اللوحة خضع بدوره للفكرة، وحاول تأكيدها، فوضعية الأجساد تكاد تشابه الأجساد الفرعونية فوق الجداريات، لتصبح المقارنة بين خلقية ومقدمة اللوحة لا تعتمد على حجم الجسم وتصدره اللوحة، أو مواجهته للمتلقي، ولكن من خلال التكتل في حشود كثيرة، مع القليل من الفروقات في النِسب وتوزيع اللون، ما بين لون خالص نقي، وعدة ألوان مختلفة للجسد الواحد. الألوان أيضاً جاءت لتعبّر عن بيئات مصرية مختلفة … كالصحراء والريف وساكنات المدن الساحلية (أصفر، أخضر، أزرق)، وإن كان اللـون الأزرق هو المـسـيطــر في العديد من اللوحات.
من ناحية أخرى تستخدم عبد الباقي تقنية السكين دون الفرشاة، لتعطي انطباعاً أكثر بالحياة على عالم اللوحة وملمسها. تعود عبد الباقي إلى الأصول/المرأة، وتحتفي بها في حشد، وإن كانت حشود يناير لم تحقق ما حلمت به، فربما حشود النساء المصريات تنويعة أخرى على حلم ثوري، هو الأساس في ثورة فكرية وعقائدية في المقام الأول، كخطوة ضرورية لثورة اجتماعية وسياسية بالتبعية.
محمد عبد الرحيم