من خلال معارض استعادية لحامد ندا وصلاح عبدالكريم: السيريالية الشعبية والروح القومية في الفن التشكيلي المصري
[wpcc-script type=”5857f1a6560fe08f607ad283-text/javascript”]
القاهرة ـ «القدس العربي»: وسط الزخم التشكيلي الذي تشهده القاهرة من خلال التجارب التشكيلية للفنانين من الأجيال الجديدة، أو المعارض الجماعية لشباب التشكيليين، تأتي معارض استعادية لأعمال كبار الفن التشكيلي المصري، الذين كان لهم أثر كبير على تطور الفن التشكيلي في مصر. ويُقام حالياً في القاهرة معرض لاثنين من أهم الفنانين الذي أثروا الحركة التشكيلية المصرية، اللذين ارتبط اسميهما بفترات تاريخية مهمة على المستوى الفني والاجتماعي.
أولهما الفنان (حامد ندا 1924 ــ 1990)، الذي اشتهر بأعماله التي تحمل روحا سيريالية مُستمدة من حكايات وأساطير شعبية مصرية، والذي يُقام معرضه في غاليري (إبداع)، والآخر هو الفنان (صلاح عبد الكريم 1925 ــ 1988)، الذي تنوع إنتاجه ما بين الرسم وتصميم الديكور، وتشكيل الحديد الذي اشتهر به كنموذج لهذا الفن في مصر.
ويُقام معرضه الاستعادي في غاليري (سفر خان) في القاهرة.
والمقابلة بين عالم كل منهما تأتي كمقابلة ما بين عالم ذاتي يمثله (ندا)، وآخر موضوعي، اهتم أكثر بأحداث ووقائع تاريخية وسياسية، ومد قومي وحركة تصنيع شهدتها مصر خلال ستينات القرن الفائت، وهو ما تمثله أعمال عبد الكريم كانعكاس للحالة الاجتماعية وتجلياتها، خاصة في أعماله التي اعتمدت إعادة تشكيل الحديد، وخلق كائنات وأشكال لها جمالياتها وتقنياتها التي برع في تجسيدها صلاح عبد الكريم.
الروح السيريالية في أعمال حامد ندا
لم تكن معالجات حامد ندا لموضوعاته الفنية تخضع لأسلوب سوريالي مباشر، من حيث التكنيك وعلاقة التكوينات بمسطح اللوحة، بل الأدق أن الرجل استلهم الروح السيريالية في معالجة الموضوعات، لذا من الصعب تصنيف حامد ندا داخل المدرسة السيريالية وحدها، لأنه أمر بعيد عن الدقة.
فالبورتريهات التي قام برسمها، سواء بالرصاص فقط، التي اعتمدت الخطوط واللون، وكذلك وجوه النساء وكأنهن ينتمين لفئة أرستقراطية، وإن حاول ندا أن يخلق من خلال الإكسسوارات الشعبية حالة من التماهي بين عالمين، وقد نجح في ذلك إلى حدٍ كبير.
والمزج بين فئتين اجتماعيتين في ذلك الوقت ــ وحتى الآن ــ كان أشبه بتفكير سوريالي على المستوى الاجتماعي والنفسي، في المزج بين الوعي وما فوقه.
ليتحول الأمر بعد ذلك إلى أسلوب فني حاملاً تراثاً ثقافياً واجتماعياً، بداية من الثبات الحركي والتكوين الجسماني المتزن، كما في الفن الفرعوني، وحركات أجساد الناس في الواقع الشعبي، حيث المجاذيب وحفلات أو طقوس الزار، والأفراح الشعبية، وأحلام وهلاوس هذه الفئة، المرتبطة أشد الارتباط بحالة مأزومة من التدين في شكله الشعبي، الذي يمتد بجذوره إلى المعتقد الفرعوني القديم، قبل الدخول إلى حالة الأديان التوحيدية.
وقد تجسد أعمال حامد ندا هذه الحالة المُفزعة ما بين الواقع ووعيه، وما وراء هذا الواقع، أي الذي يُحركه ويؤثر فيه، وبالتالي يُعيد إنتاجه في شكل ممارسات مزمنة لا تنتهي.
من هنا يمكن الدخول إلى لوحات حامد ندا ورؤيتها والتفاعل معها… أجساد نساء متحورة التفاصيل، تتحرك في فضاء وكأنها ترقص، أو حصان يحمل الشهادتين ــ لا إله إلا الله، مُحمد رسول الله ــ يقف وكأنه أحد الآلهة الفرعونية القديمة، التي نطالعها في الجداريات داخل المقابر.
وبما أن القصص الشعبي هو الوسيط ما بين تاريخ انقطع تواتره، وواقع غريب ينوء بثقله، هذه القصص إذن هي المجال الخصب للمخيلة، فجاءت لوحات مثل .. أيوب المصري، وحسن ونعيمة.
كما تتجسد حالة الرقص الطقسي وتحولاتها من تكرار شكلي للأجساد فوق الجداريات الفرعونية إلى أجساد تتحور نسب تفاصيلها، وكأنها تتحرك في عالم غير محكوم بمكان، رغم خلفية اللوحة التي تظهر بعض من ملامحه… نافذة، باب بيت، سطوح منازل متراصة كالشواهد.
إضافة إلى تفاعل الحيوان والجماد مع الشخصيات، كعالم متزن ولغة مشتركة يتفهمها ويتحدثها الجميع.
فالعازف يصبح وآلته كالجسد الواحد، في حالة تماه، فالأمر في النهاية يتحول إلى ما يُشبه حفلات الزار.
كما لا يستطيع الفنان الهرب من تراثه، بداية من بساطة الخطوط، والتركيبات اللونية، كالأحمر ودرجاته، والأخضر والأصفر، كلها ألوان تشكّل حالة من التآلف مع الخط وتكويناته، لتوحي بحالة من التوازن لشخصيات وعالم اللوحة، رغم أنها في حالتها القصوى من الحركة والصخب.
الحِس الاجتماعي في أعمال صلاح عبد الكريم
تنوعت أعمال الفنان صلاح عبد الكريم كمَثّال، إضافة إلى الرسم وتصميم الديكور المسرحي وأزياء الشخصيات التاريخية في الأعمال الدرامية.
وتبدو مسحة من تأثير المدرسة التكعيبية على أعماله، من خلال النسب والأسلوب في اللوحات، وهو ما يتضح أيضاً في بعض تصميماته لديكورات العروض المسرحية، سواء الكلاسيكية منها، أو الأكثر حداثة.
إلا أن العمل الأكبر الذي اشتهر به عبد الكريم هو استخدام خامة الحديد ــ الحديد الخُردة ــ وإعادة تخليقها في أعمال فنية متميزة، يبدو فيها التصميم الدقيق، وتنوع الموضوعات ما بين الرموز الدينية والكائنات التي تخضع بالأساس لخيال الفنان، كالحصان والضفدع وما شابه من هذه المخلوقات.
وفي هذه المرحلة ابتعد عبد الكريم عن لوحاته الأولى التي تمثل النساء صاحبات الوجوه الأرستقراطية، والجلسات المتزنة، إضافة للأسلوب التكعيبي كما أسلفنا، تفاعل الفنان مع حالة التحوّل الاجتماعي في ستينات القرن الفائت، فترك مُسطّح اللوحة وبورتريهات نساء الصالونات، واتجه إلى تشكيلاته من الحديد، ككائنات عملاقة تبدو بأبعادها الثلاثة في الفراغ، تستند إلى وعي حاد وتنظيم هندسي دقيق، إضافة إلى البحث عن خامات غير تقليدية في هذه الأعمال ــ الحديد وإعادة إنتاجه ــ والتعبير من خلال أساليب متنوعة، ما بين التجسيد، أو الانفلات من الصورة الواقعية إلى خلق عمل فني له حياته الخاصة وتكويناته المنتمية إليه فقط، ذلك عن طريق التحوير والإضافة للتمثال، بما يبتعد عن شكله وتكوينه الواقعي، ليصبح أكثر دلالة من مجرد عمل يعتمد الحِرفة في النقل، لتبدو أشبه بالمخلوقات الخرافية منها إلى حقيقتها، إضافة إلى حالات التجريد في هذه المنحوتات، التي توحي بالتجربة وتأثيرها، أكثر من كونها مجرد تجسيد لشيء أو كائن موجود من قبل. كحالة جديدة تضرب المجتمع المصري، ترجمها الرجل ووجد ضالته في هذا الشكل من الأعمال الفنية.
وحالته هذه من الممكن القياس عليها بما كان الفن يهتم به وما أصبح عليه، خاصة ما قبل يوليو/تموز 1952، وما بعد نتائجها وتداعياتها على فكر وأسلوب تجربة متميزة في مسار التشكيل المصري، كتجربة صلاح عبد الكريم.
محمد عبد الرحيم