من هتاف الصامتين إلى صخب اليائسين… قراءة في العبارات المكتوبة على حافلات «التوك توك»
[wpcc-script type=”ec573d2170bbb7f1952fffdc-text/javascript”]
القاهرة ـ «القدس العربي»: «شرقانه وصاحبها مسافر وحالها يصعب ع الكافر/ما تقولش دي بكام دي جايه بدهب المدام/ما تبصش لماتورها لَلزيت يقف في زورها/يا توسعي بنطلونك يا تجيبي رقم تليفونك/أنا مش هعمل زيكو وأدوس، أصل أنا مش كلب فلوس/صاحبت كلب حرسني صاحبت صاحب حبسني/لو مكانش الجواز دا جريمة، ما كانوش طلبولوا شهود/جيت ادعيلك بالجنة لاقيت النار ادفالك/عشت عصفور جرحوني عشت أسد احترموني/اتنين مالهومش أمان، الفرامل والنسوان/الكار دا مش كارنا بس ربنا يصبرنا/المجتمع مش غفور رحيم/محدّش فاهم حاجة». هذه بعض من العبارات التي تزيّن أشهر وسائل النقل في مصر الآن «التوك توك».
وما بين التعبير عن رأي أصحابها في الحياة، أو حتى لإثارة الضحك، وكأنه مُزحة، إلا أن هذه العبارات تحمل العديد من الدلالات من وجهة نظر وطريقة تفكير، ومواقف وتجارب يجب التعليق عليها أو من خلالها. ولعل من أشهر من التفت إلى هذه الظاهرة عالم الاجتماع سيد عويس، في كتابة المعروف «هتاف الصامتين» عام 1971 لينقل من خلاله صوت هؤلاء، عن طريق العبارات التي يقومون بتدوينها على الحافلات المختلفة، من عربات النقل والتاكسي وحتى الكارو. كان عويس وقتها يتأمل الوضع بعد هزيمة 1967، ووجد في العبارات ضالته في الكشف عن حالة المجتمع المصري آنذاك، ليجد التعلق بالأمل في الله، ومحاولات جمع الشتات مرّة أخرى، كانت العبارات أغلبها دينية، إضافة إلى أغنيات أم كلثوم وعبد الحليم، وبعض العبارات التي تحمل نغمة اليأس والحيرة واللامبالاة، لكنها لا تقارن ولا يمكن القياس عليها وقتها بأنها الحالة الأساس.
والعبارات المستمرة حتى الآن تدور في إطار المجال الديني إلى حدٍ ما، سواء الإسلامي أو المسيحي، ما بين «رب اشرح لي صدري» و«الله محبة»، إضافة إلى العبارات الأشهر لدرء الحسد والخوف عموماً من المستقبل، وقد نجد عَلم العربية السعودية، لما يحمله من عبارة الشهادتين لدى المسلمين، وبجواره صورة لـ«جيفارا»!
عالم التوك توك
غيّر «التوك توك» كوسيلة من وسائل النقل السريعة العديد من مظاهر الحياة الاجتماعية في مصر، نظراً إلى طبيعة سائقيه المتنوعة والمتباينة الأعمار والفئات الاجتماعية ما بين الأدنى منها والأعلى قليلاً، كذلك جيل كامل من الشباب الصغير وحتى الأطفال الذين يقومون بقيادته، من دون أي رقابة من الدولة، التي تريد إشغال المتعطلين بأي شكل. هنا كان الاحتكاك المباشر بين هذه الفئات، وهنا كانت عباراتهم التي تحمل وجهة نظرهم إلى الحياة وما يدور بها، وفق وعيهم وسُبل العيش المعقدة. إضافة إلى ذلك نجد أن تردي الظروف الاقتصادية أدى بالبعض أن يمتهن هذه المهنة، ربما مُصادفة، أو كحل لمشكلات اقتصادية مزمنة، لنجده يعبّر عن حالته هذه من خلال بعض العبارات، مثل … «مش شغلتنا بس أحسن من قعدتنا، توكتوك يلمني ولا كفيل يذلني، الكار دا مش كارنا بس ربنا يصبرنا». وهكذا تتواتر العبارات المُعلَنة، التي تعبّر عن حالة السائق وهذه المهنة التي اضطر إلى امتهانها.
25 يناير
نقترب الآن من العام الخامس لثورة 25 يناير/كانون الثاني، التي تجلت من خلال العديد من العبارات التي كتبها أصحابها على ما يمتلكونه من هذه العربة الصغيرة ذات العجلات الثلاثة. كان العلم المصري يُغطي زجاجها الخلفي بالكامل، مزيّناً بالرقم 25، وكانت العبارات الثورة من قبيل «إرفع راسك فوق إنتَ مصري» وكلمة ميدان التحرير، والشعور بالزهو والانتماء من هؤلاء، الذين ظن الكثيرون أنهم بعيدون تماماً عن المشهد، ولا يشعرون أو يتفاعلون لأي شيء. ذلك كان منذ ما يقرب من خمس سنوات، ولما طالهم الإحباط أكثر، ووجدوا أن القوانين والجو العام السلطوي أصبح يسخر من الثورة، ويحاول طمس معالمها بشتى الطرق، لم يجدوا إلا عبارات الانتقام، والعزلة، يعني.. «كل واحد يخلّص نفسه بنفسه، ويجيب حقه بدراعه». ولعل أشهر عناوين الأفلام تم تداولها، خاصة هوجة الانتقام الفردي، وقد انتفى الحِس الجمعي تماماً، ليصبح «قلب الأسد» يتصدر المشهد، وعبارة مثل «ما تجيش جنبها لَجيبك تحتها».
ما فيش صاحب بيتصاحب
الشيء اللافت والمُسيطر على هذه العبارات يتمثل في حالات الشك وعدم اليقين، خاصة في حالتي الصداقة والحب. والعبارات التي تنفي وجود مثل هذه العلاقات كثيرة ولا تحصى، خاصة حالة الصداقة، فهناك إحساس قوي بالغدر وعدم الثقة في الآخر «ما فيش صاحب بيتصاحب» كمثال، وهي عبارة لإحدى الأغنيات الشعبية الذائعة هذه الأيام في مصر، وكأنها مأخوذة من وحي العبارات المخطوطة فوق التكاتِك (جمع توك توك). الأمر لا يقتصر على التأسي لحال الصداقة، بل هناك حالة من التوتر وانتظار الانتقام في أي وقت، هناك حالة عنف مكبوت إلى أقصى حد، وهو ما تعكسه الكلمات التي في الكثير من الأحيان تتجاوز حدود الآداب المُتعارف عليها اجتماعياً، لكن يتم استخدامها وأقسى منها في الحوار الشفاهي بين الناس، هنا ينتقل الشفهي إلى المكتوب والمُعلن للملأ، من دون أي أهمية لعواقب رد الفعل، الذي أصبح في الغالب يتوافق مع الكثيرين، سواء من الرّكاب أو المارة، ومن هذه العبارات… «لو صاحبك خانك اعتبروا دخانك، التقدير خسرنا كتير، الملح داب والعيش اكلوه الكلاب/عشت عصفور جرحوني عشت أسد احترموني، يا بخت اللي صاحبه في الضحك مسخرة وفي وقت الجد راجل مش مَرَه، صاحبت كلب حَرَسني صاحبت صاحب حَبَسني، الوقت اللي احنا فيه صعب الجدع تلاقيه، بعتِني بكام يا صاحبي؟ وخيراً تعمل شخراً تلقى.
الحب وأشياء أخرى
شهدت العبارات المكتوبة احتفاء بحالات الحب وتحولاته، لكنها في الغالب لم تبتعد عن الحِس الانتقامي، وعدم الثقة، فكلمات مثل «أهواك» أو «يا ظالمني» أصبحت في طي النسيان. تبدأ العبارات هادئة، مثل .. «غلطة عمري إني حبيتك» أو «البداية كانت ليك والنهاية بهون عليك؟!». ثم تأتي معزوفة الغزل «رافعه حاجبها ومحدش عاجبها»، أو الأقوال المباشرة عن علاقة محدودة يومئ بها صاحب العبارة، مثل .. «يا توسعى بنطلونك يا تجيبي رقم تليفونك، يا توسعي العبايه يا تيجى تركبي معايا»، وهي أقوال تربط بين الشكل والأخلاق ــ الفكرة نفسها التي تبرر التحرش، وتلقي باللائمة على الفتاة وطريقة وشكل ملابسها ــ فالتخيير هنا إما أن تلتزم بشكل مناسب في ملبسها، وإما تصبح صيداً سهلاً! ــ ومن خلال الوازع الأخلاقي المزعوم، تأتي عبارات «يفيد بإيه الجَمال طالما الوزة شمال، ولا عُمر الفسيخ هيبقى مربى ولا عُمر الشمال هتتربى» ــ لفظة شمال تطلق على الفتاة سيئة السُمعة ــ وآخر بيجيب من الآخر .. «الحب من غير بوس زي الطرحه من غير دبوس».
الظاهرة الاجتماعية
أهم ما يميز هذه العبارات منذ أن التفت إليها سيد عويس، أنها تعكس التغيرات الاجتماعية العميقة، لدى أهم وأعرض الفئات في المجتمع المصري. إنها عبارات الأغلبية، الصامتة في الماضي والصاخبة الآن. ويمكن أن يمتد رصدها ومحاولة تحليلها كل فترة زمنية، لأنها دالة في ثقة عن طبيعة التحولات ووجهات النظر تجاه الأحداث والحوادث الكبرى. ورغم أن هذه العبارات أعمق وأشمل من أي محاولة تنظيرية أو بحثية، لأنها مجهولة المؤلف في الكثير منها، تماماً كما المُزحة، إلا أن محاولة تأطيرها في دراسة، ربما تحفظها وتعتبرها دفترا من دفاتر أحوال الشعب، ما يراه ويتوقعه ويفكر فيه، وقد انتقل الشفاهي إلى الكتابي، أي تم الجهر والتصريح به في وجه الجميع، وهو شكل من أشكال المواجهة في أبسط صورها وأعمقها. وربما فرصة لمراجعة ما حدث وقد أصبح الجميع يُشاهد ويُعايش نتائجه، ولا نجد ختاماً أفضل من هذه العبارة التي سجّلها صاحب أحد التكاتِك… «ما تحُطِش مفتاح سعادتك فى جيب حد».
محمد عبد الرحيم