موسيقى الشرق: حرير الكلام

كما قدمت الحضارات المتتالية معارف مختلفة للعالم تخص كل شيء في الحياة، قدمت أيضا للموسيقى نقلات مختلفة إن كان عبر اختراع أو عمل آلات موسيقية مختلفة او عبر استحداث مقامات جديدة وأساليب موسيقية مختلفة.

موسيقى الشرق: حرير الكلام

[wpcc-script type=”c7e3dd23ac4f5aa4ea9ac28a-text/javascript”]

كما قدمت الحضارات المتتالية معارف مختلفة للعالم تخص كل شيء في الحياة، قدمت أيضا للموسيقى نقلات مختلفة إن كان عبر اختراع أو عمل آلات موسيقية مختلفة او عبر استحداث مقامات جديدة وأساليب موسيقية مختلفة.
وبالرغم من تقارب الشرق على سبيل المثال فإن الآلات الموسيقية المعروفة فيه قد تُعرف في بقعة منه ولا تُعرف في بقعة أخرى قريبة جغرافيا وحضاريا أيضا، فمثلا آلة السنطور العراقية نكتشف أن السوريين أو اللبنانيين يجهلونها وبالتالي فهي آلة غير متعارف عليها ضمن الأوركسترات المعروفة في هذه البلدان أو غيرها، هذا على صعيد دول تربطها وشائج متقاربة إن كان باللغة أو بالآداب وغيرها، فما بالنا إذن بالعالم الكبير المترامي الأطراف، فكم منا مثلا يعرف آلة البيبا الصينية؟ او غيرها من الآلات التي قد أجهل أنا ايضا منها الكثير بالرغم من اهتمامي بالموضوع نفسه.
عندما أسست «أوركسترا الشرق» فكرت بأنني أريد أن أضع آلات الشرق الأقصى والأدنى كلها على خشبة مسرح واحدة، أن أجعل امتزاجًا كبيرا بين الشرق والشرق عبر موسيقى وآلات تستحضر عالم الشرق بكل غرائبيته وأسطوريته وواقعيته أيضا إلى المسرح.
كان لدي أكثر من هدف في وقت واحد إضافة إلى جماليات العرض نفسه، فقد اندثرت آلات كثيرة ومنها ما يكاد يندثر بالرغم من أن بعض هذه الآلات تقدم فنونا راقية بل ولغتها الجمالية عالية جدا، كنت أهدف إلى إحياء الشرق الموسيقي بآلاته التي قد لا يعرفها كثير من أنحاء العالم، بل وأيضاً حتى في الشرق نفسه، وكنت أيضا أحلم ببناء أوركسترا عظيمة تجتمع تحت سقف الشرق بكل ما يحمل من حضارات وآفاق إنسانية، وأيضاً إلى اجتماع فنانين آتين من حضارات متقاربة ومن شرق واحد سواء اقترب أو ابتعد.
هكذا كانت أوركسترا الشرق التي أحيت حفلتها الأولى ضمن مهرجان أبوظبي للموسيقى الكلاسيكية وضمت (75) عازفة وعازفا آتين من كل بقاع الشرقين، وعلى المسرح اجتمعت البيبا الصينية مع السيرنج الهندي والطنبور التركي والايراني والسيتار الهندي الباكستاني والساز الكردي الذي كان قديما يسمى العود ذو الرقبة الطويلة، والليرا اليونانية وكذلك البوزوكي الذي ينتمي لعائلة العود كما البزق، والسنطور العراقي والجوزة العراقية أيضا التي تشكل مع السنطور ثنائيا يصاحب مغني المقام العراقي منذ مئات السنين، إضافة إلى الرباب الافغاني، والآت إيقاعية أيضا متجانسة ومختلفة تماما عن بعضها، منها ما يُنتج الإيقاع عبر اصطفاق الهواء بواسطة حركة تشبه تفريغ الهواء من خلال الضغط بالكف، طبعا ولا ننسى القانون والناي والعود دائما.
كنت أرغب في أوركسترا تشابه الأوركسترات الغربية الكبيرة والراسخة ليس بمعنى المشابهة بالشكل بل المقصود أوركسترا ذات رسوخ تقدم شكلا موسيقيا مختلفا يحمل روح الشرق وأدوات حضارته.
وقد قمت ببحوث كثيرة للوصول الى عازفي الآلات التقليدية في الشرق وساعدني في هذا مشكورا الصديق الفنان صاحب الصوت الرخيم أنور ابو دراغ، هذه التجربة كانت مهمة ليست لي أنا على الصعيد الشخصي وحسب، بل كانت أيضا تجربة تشبه الحلم لكل من شارك بها، كان عمل الاوركسترا يشبه عمل خلية النحل، عمل دؤوب بكل معنى الكلمة، وكانت روح جميلة تسيطر على العازفات والعازفين، فهذا أيتاج التركي يعزف على القانون ولا يستطيع التعبير بالانكليزية، وذاك لا يعرف كيف يتواصل مع العازف الإيراني، والعازف الإيراني يرنو مبتسما الى العازفة الصينية، لم يكن الكلام كثيرا، لكن سماء المسرح حملت آلاف الكلمات التي ولدت في تلك الليلة عندما اجتمعت الأوركسترا في عرضها الأول.
قدمت هذه التجربة سماعا مغايرا لما اعتادت عليه آذاننا، فاجتماع آلات الشرقين، واجتماع هذه الحضارات بكل خلفياتها جعلت روح المسرح تحلق في آفاق جديدة، وكان العرض الاول غنيا بروح تشبه أرواح المتصوفة القدماء، لكن الخبز هذه المرة كان الموسيقى.
تجارب كهذه، نحتاجها جدا في موسيقانا لأنها تجعلنا ننطلق نحو اكتشاف مناطق مغايرة وجديدة دائما في الموسيقى بل وتحفزنا على الاستماع للموسيقى ليس من باب الاستمتاع فقط بلحظة خاصة، بل بوصف هذه الموسيقى بوابة عريضة للإبحار في التاريخ الإنساني الجمالي.
لكنها للأسف تجارب مكلفة من الناحية المادية وتحتاج دائما مغامرين يشطحون نحو الحلم الأكثر جمالا.
اجتمعت هذه الأوركسترا بشكلها الكبير والكامل لمرتين الأولى كما اسلفت كانت عبر مهرجان أبوظبي للموسيقى، ومن ثم جاءت الرعاية الثانية من دار الأوبرا السلطانية في سلطنة عُمان، وقدمنا أيضا تجارب مختلفة لهذه الأوركسترا لكن ليس بشكلها الكبير الكامل، منها ما كان في تونس ضمن مهرجان قرطاج ومنها ما قدم على مسرح خشبة دار الأوبرا المصرية إضافة إلى حفلات كثيرة في بقاع مختلفة من العالم، لكن يظل الحلم بتعميم هذه الأوركسترا كبيرا، وسيظل حلما يلاحقني وألاحقه، أحدنا لن يترك الآخر من دون ملاحقة أبدا، فالحلم لا يكتمل عند نسيانه.

موسيقي عراقي

نصير شمه

Source: alghad.com

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *