موسيقى الكتابة «الأخيرة»: هل تحققت النبوءة بزوال الحواجز بين الشعر والنثر؟

34

موسيقى الكتابة «الأخيرة»: هل تحققت النبوءة بزوال الحواجز بين الشعر والنثر؟

[wpcc-script type=”9b96f2a8a97089af7eeb0db5-text/javascript”]

 

34
وعندما احتدمَ سجالٌ معاصرٌ حول تجربة الكتابة خارج الوزن والتفاعيل، شاركتْ كثيرٌ من التجارب الشعرية المهمة في هذا السجال بأشكال مختلفة، تنظيراً وإبداعاً.
كان قلق المصطلحات والمعطيات والحوارات والتجارب حاضراً. كان محمود درويش، أشهر الشعراء المعاصرين تردداً وقلقاً إزاء تجربة قصيدة النثر، مفصحاً إنه لا يستطيع أن يُعبّرَ عن نفسه شعرياً إلا بالكتابة الشعرية الموزونة، (لكنها – يقول درويش – ليست موزونة بالمعنى التقليدي، ففي داخل الوزن نستطيع أن نشق إيقاعاتٍ جديدة وطريقة تنفسٍ شعرية جديدة تخرج الشعر من الرتابة ومن القرقعة الخارجية). مضيفاً بأن (كل كتابة فيها إيقاع). وبأنه كان يحاول (تنظيف القصيدة مما ليس شعراً). وظني أن «محمود درويش» قد كتب نثراً أجملَ من شعرٍ كثير.

35
إذا كان ثمة مأخذ لديّ على بعض أبناء جيلي ومعظم الأجيال اللاحقة، فهو الاهتمام الأقل، أو الاستهانة الفجّة، بجماليات اللغة العربية، وهم يكتبون نصوصهم الجميلة، التي ربما ستكون أكثر جمالاً. قبل ذلك، كنت أسأل: كيف يحدث أن يصطدم شاعرٌ بجدار اللغة، وهو الذي أخذ درسَ اللغة من البلاغة العربية.
في حين نجد زملاء له يفتتحون في اللغة العربية آفاق الكتابة جيلاً بعد جيل، بالتحولات ومستويات التعبير. لماذا يحدث هذا عند شعراء متجاورين في الزمن والتجربة؟ ثم كيف لنا أن نفهم تجربة الكتابة المتميزة، عند شعراء مختلفين، عندما يكتبون نثراً يضاهي شعرَهم. فالنثر عند أدونيس وأنسي الحاج وأمين صالح وسليم بركات ومحمود درويش، كنماذج فحسب، وهم لا يتشابهون في الأساليب، ولا يشبه نثرهم نثراً آخر، ولا يستطيع أحدٌ تقليدهم بلا فضيحة.
ألا يشكل وعي اللغة وحرية المخيلة سراً جوهرياً في هذه المواهب؟

36
وعندما واصلَ بعضُ المجددين في بنية الشعر العربي الحديث، متجاوزين الأنماط التقليدية للبلاغة، بعد التحرر من شروط البحور، واعتماد التفعيلات، ثم الاستغناء عن الوزن في تلك التفعيلات، ذاهبين إلى فضاء الكتابة خارج الوزن، حيث النثر كاملاً، أدى كل ذلك إلى البحث عن فن الصورة الشعرية كبديل عن الإيقاع. صارت الطاقة البصرية تزيح الطاقة الموسيقية في النص، ما جعل اجتهاد الحريات بلا ضوابط شعرية، ونتجَ عن ذلك الاجتهاد عددٌ من المبالغات التي فرّطت في شرط شعريٍّ لازمٍ يتصل باللغة التي بين يديّ الشاعر. فتقدمتْ تجارب كثيرة باقتراحاتها، متخفّفةً من صوت اللغة، فلاحظنا (صمتَ النص) الذي يقع فيه الكثيرون وهم يخسرون شيئاً من الشعرية في لغتهم.

37
ثمة اجتهادٌ علميّ قدمه نقادٌ حديثون في حقل البحث التقني والدلالي في ضوء تجربة الشعر العربي الحديث، مثل كمال أبو ديب، الذي اقترحَ إشارات مبكرةٍ لآلية بحثٍ رؤيويةٍ يمكن تأخذ التجربة الشعرية العربية نحو أفقٍ جديدٍ وهي تكتب نصوصها خارج الأوزان المعروفة، من شرفة مفهوم مختلف لموسيقى الشعر، معتبراً أن قصيدة النثر والكتابة خارج حدود العروض، يمكنها أن تجد موسيقاها الخاصة في «الإيقاع النابع من النبر والتركيب الصوتي للغة والأبعاد الدلالية للنظم، وهي المكونات ذاتها التي تمنح النثر تشكيلاته الإيقاعية». غير أن مثل هذا الذهاب سيحتاج شاعراً مبدعاً يرى في اللغة ثروته الشخصية وحريته الخاصة، بعد أن يكون على معرفة ممتازة باللغة التي يكتب بها. وكان للاجتهاد التقني الذي اقترحه أبو ديب أن يتبلور، لو أن فسحة من التأمل النقديّ تيسرت للتجربة الشعرية العربية، لمراجعة احتمالاتها الجديدة.

38
من جهة أخرى، كان صبحي حديدي ومحمد الصالحي، مع صلاح بوسريف، كنماذج فحسب، من بين أهم وجهات النظر النقدية الشابة التي طَرحتْ، منذ سنوات، اجتهاداتٍ ذات أهمية وجرأة تمسّ صميم الكتابة العربية الراهنة. واللافتُ في هذه المساءلات النقدية، تلك المراجعة الصارمة التي خصتْ تجربة قصيدة النثر. صبحي حديدي، مثلاً، كان يرى في شكل قصيدة النثر العربية درجةً من التخلف يجعلها تقصر عن مكتسبات عصور التجديد في العالم. وهو يرى، ضمن نظريته عن (التعاقد بين الشاعر والقارئ)، أن الشاعر مسؤولٌ عن توفير (العدّة الجمالية) الكافية لردم الفجوة بين النص والقارئ، وهو يرى أن الشاعر العربي، فيما يكتب قصيدته الجديدة، يبدو عرضةً لموتٍ بطيء بسبب انهيار التعاقد بين طرفيّ العملية الإبداعية، الشاعر والقارئ، حول تعريف الفن، والاتفاق على مفاهيمه الشعرية.
صبحي حديدي، وهو من أكثر النقاد الجدد حماساً وعناية بتجربة قصيدة النثر، وبين أكثر المنظرين لتقديمها للقارئ العربي، سَبَقَ أن تحدثَ عن الإشكالية التي تثير قلقنا، ويتحدث عن (العدّة الجمالية) التي تقصر عنها هذه التجربة، وهو يقارب كثيراً حديثنا عما يفرّط فيه الشاعرُ من جماليات اللغة العربية، فيما يكتب قصيدته خارج الوزن والبحور. «فإذا كانت العربية كلغة، تحمل في طَيَّاتِها، أصواتاً كامنةً – يقول صلاح بوسريف – توحي بإيقاعاتٍ متنوعةٍ، فَيَدُ الشاعر، تحتاج إلى مزيد من الرَّهافَة في تَعَقُّب هذه الإيقاعات، والاستماع إليها، وتحويل مجراها من مُجرَّد أصوات تحدثُ بالطبيعة، إلى نغمٍ، نسيجُ علاقاتِه، يَفِيضُ باللغة عن بديهياتها».
وفي كتابه الفذّ، ذي العنوان الدال: «شيخوخة الخليل»، يكشفُ محمد الصالحي بنقدٍ ثاقبٍ، فوضى المصطلحات التي جَرَفت حركة التجديد الشعريّ نحو الضلالة، مما ترك الكتابة بلا تخوم شعرية، ولا «تجليات ايقاعية كفيلة بإيجاد شكل للكتابة».
«فما من شعرٍ عظيم – حسب صبحي حديدي – دونما عمارة إيقاعية رفيعة، تحمل قسطاً وافراً من أعباء الإعراب عن عظمة النص الشعري». بمثل هذه الرؤى النقدية الجريئة، ربما تسنى لنا، من دون تردد، مطارحة الأسئلة المؤجلة، المسكوت عنها، لتفادي المزيد من الخسارات والإخفاق.

39
في تجربة الشعر الفرنسي، اعتبرَ جان كوهن أن ترددَ النقد الشعريّ أمام تجارب الكتابة الجديدة عائدٌ إلى تغيّيب العنصر الموسيقي في نصوص قصيدة النثر الفرنسية. فإذا كان مثل هذا القول يتصل بـاللغة الفرنسية، ماذا يمكن أن نقول عن حالنا في موسيقى اللغة العربية ونحن نكتب شعرنا الجديد؟ سنحتاج إلى مراجعات المختصين في هذه التجربة، من أجل أن يسعفوا بعض القلق الذي يعترينا، خصوصاً ونحن نلاحظ أن الكثير، ممن يكتبون الشعر، يَخْتَرِم نصوصَهم قصورٌ واضحٌ في معرفة اللغة العربية، إضافة إلى فقر الحساسية الموسيقية التي يتطلبها فنْ الشعر، مما يؤدي إلى إنتاج نصٍ يقع في ركاكة اللغة وخفتها، كما لو أننا فعلاً أمام تقليدية جديدة.

40
تجربة شعرنا الجديد، طوال فترة عمرها، أعطتنا فرصة رفض القيود التي تمنع حرية كتابتنا لنتمرد عليها، لكننا، بالمقابل، سنحتاج فعلاً أن نعي ما نريده لكتابتنا، في فضاءٍ شعريّ حرٌّ، لا يتخلى عن شروط الفن، حيث لا يمكن للمبدع أن يكتب في الفوضى التي بلا معرفة. لكن، هل لدينا رؤية واضحة لما نريد؟ نحتاج أن نرى إلى هذا الأمر بالوضوح العميق والصرامة اللازمة.

41
ربما يجوز لنا، الآن، طرح السؤال التالي:
– هل كان تفريطنا في الإيقاع الشعري مبالغاً فيه، حتى أننا لم نجد الوقت لتأمل النقد الذي تساءل عن جدوى الموسيقى وجماليتها في بنية القصيدة العربية الجديدة؟
– ألم يكن في ذلك التفادي المتسرّع، تهاوناً نقدياً حَرَمَ التجربة من عنصرٍ جماليّ لازم، وتَرَكَ الكتابة بلا ضوابط تقنية، مما شَجَّعَ على الاستسهال الهائل الذي راكمَ لنا النصوص ضعيفة اللغة، ركيكة الخيال، بحجة كسر البلاغة، حيث لم يرَ الكثيرون في اللغة سوى الفصاحة، ولا يرون في الإيقاع سوى العروض؟
– كيف يتسنى لنا معالجة هذا القلق، بالمزيد من المعرفة لإدراك اخفاقات الكتابة، وتجاوز خساراتنا الشعرية، على صعيد التجربة الذاتية والعامة.

42
وحين لا أخضع إلى إرهاب الموقف السلبي من تجارب شباب الشعر العربي، فإنني أرى ضرورة بلورة مفاهيم شعرية جديدة للكتابة، يتوجب على كل جيل تحمّل مسؤوليته في إعادة بلورتها وتحقيقها ومساءلتها. مفاهيم تستدعي صياغتها قدراً كبيراً من الوعي والصرامة، ليس تلبيةً لحدود الإرث المُسْلط على الشعر الجديد، ولكن صدوراً من طبيعة ما نشعر به في ذواتنا، واستجابة لمسؤولية مستقبلٍ نزعمُ ذهابنا الحرّ إليه، إبداعاً وحياة.
نقترح البحثَ في السُبل الفنية الصارمة من أجل ترصين التجربة الشعرية العربية الجديدة، لتفادي ما اعتراها من خفةٍ واستخفاف في النصوص والنظر، وصقل جواهرها وتأكيد مستقبلها. هل يمكننا الكلام عن استراتيجيات الإيقاع في النص العربي؟

43
ليس من الحكمة تفادي مكتسبات الفنون التي أنجزها الإنسان في تاريخه الإبداعي، فتلك خسارة فادحة. أحبُّ، فيما أقرأ نصاً عربياً، أن أشعر بلغته العربية صوتاً وروحاً.

44
عندما ابتكرَ الإنسانُ فنَّ الموسيقى في وقت مبكر من تاريخه، كان يسعى إلى تعميق رهافة حواسه وصقل تعبيره عن روحه، واقعياً وخيالياً وعاطفياً. لذلك فالإيقاع هو أحد الأسرار العبقرية للغة، أما الصمت في بعض الكتابات الراهنة سيجرّد الكلمات من حيوية دلالاتها. الصمتُ في اللغة يؤدي غالباً إلى صمت المعنى. وكانت فكرة الموسيقى قد بدأت تتسرّب في نسيج أشكال البوح الإنساني.
فصرنا نلاحظ الإيقاع في الفنون المختلفة عبر التاريخ البشري. فحين تنزع أشكال التعبير الفني الحديث نحو الإيقاع والموسيقى، يبدو مثيراً للاستغراب تنازلنا عن عنصر الموسيقى في أكثر هذه الفنون علاقة بالإيقاع: الشعر. أنت لا تستطيع الذهاب إلى الشعر من غير أدوات وآليات شعرية.

45
لقد تنبأ والت ويتمان منذ بداية القرن العشرين، بزوال الحواجز بين الشعر والنثر،
وعلينا الآن، بعد أكثر من مئة عام، التحقّق من حدوث ذلك بشكل ممتاز.

* شاعر بحريني

قاسم حداد

كلمات مفتاحية

Source: alghad.com

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *