نورا أمين حول «تهجير المؤنث»: الجسد الأنثوي بوصفه أحد فضاءات ممارسات السلطة

القاهرة ـ «القدس العربي»: «(ليست هناك قواعد) .. هذا ما يتردد في ذهني بينما أعبر الشوارع المزدحمة للمدينة التي ولدتُ فيها/القاهرة. ومع ذلك هناك تمييز واضح/الجنس. تدرك الشوارع أنوثتي وتعاملني وفقاً لها. وبينما أحاول دوماً أن أفهم مفاتيح الأمان، أرتكب أخطاءً. أكتشف الفضاء العام، وأكتشف ما صرت إليه، أكتشف ما يمثله جسدي، وأكتشف ماهية هذا الافتتان الأبدي بالجسد الأنثوي وبانتهاكه والسيطرة عليه». (ص 13).

نورا أمين حول «تهجير المؤنث»: الجسد الأنثوي بوصفه أحد فضاءات ممارسات السلطة

[wpcc-script type=”95ee8e707750f63e8b258c73-text/javascript”]

 

القاهرة ـ «القدس العربي»: «(ليست هناك قواعد) .. هذا ما يتردد في ذهني بينما أعبر الشوارع المزدحمة للمدينة التي ولدتُ فيها/القاهرة. ومع ذلك هناك تمييز واضح/الجنس. تدرك الشوارع أنوثتي وتعاملني وفقاً لها. وبينما أحاول دوماً أن أفهم مفاتيح الأمان، أرتكب أخطاءً. أكتشف الفضاء العام، وأكتشف ما صرت إليه، أكتشف ما يمثله جسدي، وأكتشف ماهية هذا الافتتان الأبدي بالجسد الأنثوي وبانتهاكه والسيطرة عليه». (ص 13).
بهذه العبارات تبدأ الكاتبة نورا أمين دراستها أو شهاداتها عن الوجود الأنثوي في عالم المدينة، ضمن دراستها اللافتة والمعنونة بـ «تهجير المؤنث .. دراسة ثقافية عن التعديات على الجسد الأنثوي في المجال العام» الصادر مؤخراً عن دار آفاق للنشر والتوزيع، القاهرة في 112 صفحة من القطع المتوسط. والصادر من قبل في نسخته الإنكليزية عن دار جمعية 60 pages»» في برلين.
تكشف أمين عبر صفحات الكتاب عن مدى التسلط والتشوه الذي أصاب المجتمع المصري منذ سبعينيات القرن الفائت، وصولاً إلى حالات التحرش بمختلف درجاتها، التي أصبحت تتنفسها القاهرة في شكل اعتيادي، وكأنها أصبحت ضمن ثقافته وأحد أدواته التعبيرية عن الوجود. «في الحقيقة، إن هذا العمل هو الأصل لكل ما كتبتُ، إنه يقبع في جذر هويتي كامرأة وككاتبة، فكل النصوص التي كتبتُها على مدار 21 عاماً تتجذر في الوقائع التي يستند إليها».
«تهجير المؤنث» إنها وقائع حياة طفلة تنمو في المجتمع المصري في السبعينيات من القرن العشرين لتدرك معنى الأنوثة في علاقتها بالانتهاك والتعدي، إنه الوعي الذي يتشكل بفعل عداء متنام تجاه الجسد الأنثوي واحتلاله للمجال العمومي، أو تلك الظاهرة التي نسميها بكل اعتيادية في مصر «التحرش الجنسي». (ص 7،8).

أن تكوني امرأة

تستند نورا أمين إلى عدة تجارب شخصية مرّت بها، تنطلق منها لصياغة رؤى أشمل وأدق لما تعانيه المتهمة بالأنوثة في المجتمع. بدأ الأمر بخروج صاحبة الجسد إلى الفضاء العام، هنا تركت الفتاة حجرتها وبيتها، وهبطت الشارع، لتلتقطها أعين (رجل) صاحب محل كواء، ليقوم باقتحام جسدها بعينيه، تاركاً تجربة الانتهاك الأولى على روح صاحبته. خطوة أولى في طريق الخزي، لمجرد كونها أنثى.
وفي سن متقدمة، وقد أصبحت امرأة، وفي دولة أجنبية، التقطتها أعين (رجل) كان يحدق فيها من بعيد، كان مسؤولا كبيراً في المطار، فما كان من هذه النظرة الجنسية، والتي استدعت نظرة الكوّاء القديمة نفسها، وعندما حاولت أن ترد على نظرته، أجبرها على إجراء تفتيش خاص ودقيق، رداً منه على نظرة المقاومة الصامتة التي أبدتها. (رجل) ثالث في العام 2015، (رجل) آخر .. ضابط في مكتب الجوازات، قام بتعطيلها لأنها الوحيدة التي تقف في الطابور دون أن تكون مرتدية الحجاب، وتتذكر الرجل نفسه، الذي رفض أن يقيد مهنتها في الأوراق الرسمية كفنانة استعراضية، وأصر على وضع مؤهلها «ليسانس آداب» قسم لغة فرنسية.
فالسلطة هنا لا فارق بينها وبين كوّاء وضابط مصري وآخر ألماني، النظرة الذكورية نفسها، وتعرية الجسد واقتحامه وتوبيخه والحط منه. فما دامت أنثى فهي مباحة بشتى الطرق، فالمناخ الاجتماعي يسيطر، ولا مفر من الجسد الأنثوي لفرض هذه السيطرة، هنا يتحول الجسد إلى ساحة حرب، وما على المرأة/الضحية إلا الامتثال، والخروج من المعركة بالكثير من الندوب فوق روحها، وهو ما سيؤثر عليها، ويُعيد تفكيرها وإنتاج علاقة جديدة مع هذا الجسـد، السـبب الأقـرب والدائم للمهـانة والاذلال.
وبالتالي يصبح الجسد وحركاته وإيماءاته ملكاً للآخرين، ويصبح صورة يفرضها عليه الآخرون.

مصدر إزعاج لابد من انتهاكه

من ناحية أخرى يصبح الجسد في الفضاء العام يمثل المصدر الدائم للازعاج، حالة التوتر هذه لابد من القضاء عليها، ليس بالنظرات هذه المرّة، بل بمحاولة الانتهاك المادي الصريح، التحرش ومن ثم الاغتصاب. لابد من ترويض الجسد، وإثبات السلطة والعمل على استقرارها بشتى الطرق. إذ حدث في تشرين الثاني/نوفمبر 2012 الاغتصاب الجماعي الأول في ميدان التحرير، تلته اغتصابات عديدة ومتنوعة، امتدت الحالة إلى الشوارع والميادين الجانبية، ووصلت في بعض الحالات أن كان هناك حوالي 70 رجلاً يغتصبون امرأة واحدة. تذكر نورا أمين حالة لارا لوغان مراسلة الحرب التي ظهرت في ميدان التحرير في 11 شباط/فبراير 2011 التي قامت بنقل اللحظة الاحتفالية للمصريين بنجاح ثورتهم وعزل مبارك. في تلك الليلة هجمت مجموعة من المعتدين على لارا وعلى فريق برنامجها «60 دقيقة» وانتزعتها من بين زملائها في اعتداء جنسي عنيف. مُزّقت ملابسها حتى أصبحت عارية تماماً، وتناوب على اغتصابها عدد كبير من الرجال على مدار ساعة.
هذا الميدان الذي كان يمثل الفضاء الثوري، والمعادل لمفهوم الحرية الذي لم تعرفه مصر طوال تاريخ طويل، أصبح في لحظة هو الفضاء الأمثل للاغتصاب. فالمرأة الأجنبية، والتي خرجت ــ دون قصد ــ عن النسق المرسوم والمعروف لكونها أنثى، لم تدر ما الذي سوف يحدث لها. «لكي يفرض هيمنته .. فإن الكيان الجمعي يصر على أن يكون الجميع لوناً واحداً، نظرة واحدة، سلوكاً واحداً. إنه المنطق النموذجي نفسه الذي تطبقه المؤسسة العسكرية، الهيمنة في التماثل». (ص 28).

الاغتراب والفصام

«في مصر يعشق كل رجل وامرأة الفرجة على الرقص الشرقي … إلا أن الجميع لن يتورع عن إدانة مَن يمارسه في المجال العمومي أو كمهنة … سوف تظل تلك النساء منبوذات اجتماعياً ومقترنات بالعار، ومع ذلك سوف تظل صورتهن في أذهان الجميع كخيال مرتبط بالموضوع المثالي للرغبة». (ص 38).
حالة الفصام هذه يعيشها مجتمع الذكور، أو النظرة الذكورية بمعنى أدق، هذه النظرة التي تشترك بها نساء كثيرات، من الممكن أن يتقبلن الرقص كفعل، لكنه بينهن وأنفسهن، أما أن يخرج الفعل إلى المجال العام، وأن توصف المرأة بكونها «راقصة» فهي سُبّة أكثر من كونها مهنة كسائر المهن.
الأمر الأعقد يبدو لدى الرجال بالطبع، فهم يرونها مصدراً للمتعة والخيال الجنسي، لكنها في الوقت نفسه تمثل العار الذي يخشونه، ويريدون الانتقام منه. وفي نظرة أعمق نجد أن الأمر يتمثل بعض المفاهيم الدينية والاجتماعية المغلقة، الإسلام الصحراوي على سبيل المثال، والنظرة الدونية للمرأة، وأنها مجرّد شيء لم يخلقه الله إلا لإمتاع الرجل، فهي الناقصة دوماً، ومثار الرغبة ومكمن الشيطان، حافة الذلل الذكوري، عليك أن تخشاها، وبالتالي تسعى في لا وعيك أن تدمرها، أن نتنقم منها إثباتاً لوجودك.
نذكر هنا حادثة تدل على التدني الذي أصبح يتنفسه المصريون، حينما أرادت وزارة التربية والتعليم تغيير اسم إحدى المدارس، لتحمـل اسم سيدة الشاشة فاتن حمامة، ثار الأهالي لأن أطفالهـم لـن تحمـل مدرسـتهم اسـم مجـرّد ممـثلة، وأيضـاً امـرأة!

نورا أمين: «تهجير المؤنث»
آفاق للنشر والتوزيع، القاهرة 2016
112 صفحة

* * *

نورا أمين، روائية وكاتبة قصصية ومترجمة، ممثلة ومخرجة مسرح. تخرجت في جامعة القاهرة، وحصلت على درجة الماجستير في الأدب المقارن من قسم اللغة الفرنسية. من مؤلفاتها .. «جمل اعتراضية»و«قميص وردي فارغ» و«طرقات محدبة» و«حالات التعاطف» و«النصف الثالث» و«المسرح والتغيير» و«قبل الموت». وفي مجال الترجمة لها «الفضاء المسرحي في المجتمع الحديث» و«منهج أوجستو بوال في المسرح» و»موجز تاريخ الاتحاد السوفييتي» و«موجز تاريخ السينما» و«المستغرب في فن التمثيل» و«لم أخرج من ليلي» و«أحجار من الماء» و«البنت الأخرى».

نورا أمين حول «تهجير المؤنث»: الجسد الأنثوي بوصفه أحد فضاءات ممارسات السلطة

محمد عبد الرحيم

Source: alghad.com

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *