هبة الهواري في «تحولات التشكيل المصري المعاصر (1967 ــ 2011)»: رؤى الفنان المصري في ظل أزمات المجتمع

يأتي كتاب «تحولات التشكيل المصري المعاصر» وهو دراسة رصينة لمؤلفته هبة الهواري، ليربط ما بين الوعي التشكيلي للفنان المصري والتحليل السوسيولوجي للعمل الفني. وبذلك سواء يبدو الفنان تواصل مع مجتمعه أو انفصل عنه واغترب من خلال إنتاجه الفني، فإن ذلك يدور في فلك مشكلات اجتماعية أقرب إلى الأزمات الجمعية منها كذات فردية. فالاغتراب لا يعد سوى موقف من الفنان في الغالب، دون أن يكون مسايرة لصرعة فنية آتية من الغرب. ورغم التقليد والمحاكاة الغربية في بعض الأحيان، فالمؤلفة توضح أنها حالة هروب مما يحيط التشكيلي المصري، هروب مقصود، كمحاولة للبحث عن أي طوق للنجاة. من ناحية أخرى لم يبتعد الفن يوماً عن الظرف السياسي الذي تعيشه مصر، سواء بالعمل إيماناً بالمناخ السياسي القائم، أو الخوف والدعاية له، وصولاً إلى موقف رد الفعل من نتائجه. وطوال هذه الرحلة الزمنية التي تناولتها المؤلفة من العام 1967 وحتى العام 2011، ما بين هزيمة زلزلت اليقين، إلى ثورة أحيت الوعي بالوجود.

هبة الهواري في «تحولات التشكيل المصري المعاصر (1967 ــ 2011)»: رؤى الفنان المصري في ظل أزمات المجتمع

[wpcc-script type=”2543deb01b4ee405d2c62bda-text/javascript”]

يأتي كتاب «تحولات التشكيل المصري المعاصر» وهو دراسة رصينة لمؤلفته هبة الهواري، ليربط ما بين الوعي التشكيلي للفنان المصري والتحليل السوسيولوجي للعمل الفني. وبذلك سواء يبدو الفنان تواصل مع مجتمعه أو انفصل عنه واغترب من خلال إنتاجه الفني، فإن ذلك يدور في فلك مشكلات اجتماعية أقرب إلى الأزمات الجمعية منها كذات فردية. فالاغتراب لا يعد سوى موقف من الفنان في الغالب، دون أن يكون مسايرة لصرعة فنية آتية من الغرب. ورغم التقليد والمحاكاة الغربية في بعض الأحيان، فالمؤلفة توضح أنها حالة هروب مما يحيط التشكيلي المصري، هروب مقصود، كمحاولة للبحث عن أي طوق للنجاة. من ناحية أخرى لم يبتعد الفن يوماً عن الظرف السياسي الذي تعيشه مصر، سواء بالعمل إيماناً بالمناخ السياسي القائم، أو الخوف والدعاية له، وصولاً إلى موقف رد الفعل من نتائجه. وطوال هذه الرحلة الزمنية التي تناولتها المؤلفة من العام 1967 وحتى العام 2011، ما بين هزيمة زلزلت اليقين، إلى ثورة أحيت الوعي بالوجود.

هزيمة يونيو والتحول إلى الحداثة

لم يكن زلزال يونيو 1967 بالأمر الهين، فماذا سيفعل الفنان الذي كانت أعماله في الأساس مشاركة اجتماعية في المقام الأول وفقاً لتوجهات الدولة ونظامها الحاكم! وترى المؤلفة أن ذلك المناخ أدى لابتعاد الفنان قليلاً عما يحدث، أو حدث بمعنى أدق، فكانت الفرصة مناسبة لاستقبال ما عُرف بالـ «الفن للفن» أو النزعة الشكلية في الفن. التحول هنا جاء لزحزحة تراث فني تورط في الإيديولوجيا، كمروّج للأفكار السياسية القائمة وقتها، وبعد هزيمة يونيو شعروا بالخديعة والمهانة والمسؤولية، وما كان رد الفعل سوى شيء من العدمية، والقليل من التمرد، فكانت الحداثة هي المَخرج المناسب من حالة الضياع تلك. وهناك عدة أعمال تشاركت وأوحت بحالة التحول هذه، وإن كانت في بطء، ولا تجد المفر من الجو العام المحيط، كعمل أحمد نوار «من الميدان» الذي شارك في حرب الاستنزاف، وأحضر معه بعض الشظايا ودانات المدافع، ووظفها في تشكيل أعمال نحتية. كذلك لوحة «النكسة» لجاذبية سري، والتي جسدت الجو القاتم وحالة الهلع الذي عاشه المصريون، كالمرأة المعلقة في الهواء، ما بين بنايات كالكنائس والجوامع أعلى اللوحة، وبين وجوه مفغورة الأفواه في الأسفل، وهي/المرأة تتخذ وضعية ندّابات الجنوب، وكأنها تولول وتبكي. وفي عمل جمال السجيني «عروسة حلاوة» تبدو العروس وهي ترتدي الملابس العربية، ملابس مُهلهلة، وكسيحة هي، تمسك بعكازين، منكسرة النظرة بوجه مائل، وهو ما يتنافى والشكل المعهود والمبهج في المخيلة الجمعية لعروس المولد، حيث الابتسامة والألوان الزاهية. والعديد من أعمال تلك الفترة لم تستطع الفكاك من الحقيقة الواقعة، كلوحة «الجنازة» لسعيد العدوي، و«ساحة المعركة» لإنجي أفلاطون، ولوحة حامد ندا المُسماه بـ «حصان طروادة».

الثمانينيات وحالة الحراك الاجتماعي

جاءت الثمانينيات وقد حدث التحولات الاقتصادية والسياسية في مصر، وصار الفن عموماً والفن التشكيلي بوجه خاص في غمار تجربة جديدة، هذه التحولات التي أثرت على عملية الإنتاج الفني وكيفية تلقيها. المعضلة تكمن في جيل تربى على مقولات المد القومي والنضال العروبي، وواقع أصبح بعيداً عن هذه المقولات. وبذلك أصبح الانفتاح على التيارات الحديثة في أوروبا أساس تلك المرحلة، ولكن في ظل التمسك بالتراث، ومحاولة بعثه من جديد في رؤية تشكيلية متطورة. الأمر الأهم هنا هو فكرة الهوية والبحث عنها، هوية مصر القديمة، بديلاً عن شعار القومية العربية، ذلك بعد معاهدة كامب ديفيد، ومقاطعة الدول العربية لمصر. لم ينجرف التشكيليون المصريون لهذه الحالة، وإن كان، فمنهم مَن انتهجها بوعي، ومنهم مَن تطرف، وحاول محو فترة هي للمفارقة فترة تكوينه السياسي والفني!
وفي تلك الفترة أصبح التجريب والتجديد هو الطريق لرؤية الفنان المصري، بعد سقوط الشعارات والطنطنة، فتم الابتعاد عن الإيديولوجيا وقيودها. فملاذه أصبح في فنون التراث ومعالجة قضايا المجتمع من خلالها، وبذلك أصبح قريباً من المُتلقي الذي يعرف وعيه البصري هذه التشكيلات ولو في صياغة أخرى. ومن هؤلاء الشباب وقتها، إيفلين عشم الله، وصلاح عناني، ونازلي مدكور، وأبو بكر النواوي. وأصبح التجريد بمسمياته هو المسيطر، كالتجريدية التعبيرية، ويمثلها كل من، أحمد نوار، وفرغلي عبد الحفيظ، ومصطفى الرزاز، وفاروق حسني. أو التجريدية الهندسية، كما في أعمال، مصطفى عبد المعطي، وعبد الرحمن النشار، وأخيراً التجريدية التي اعتمدت الحروف، مثل أعمال .. طه حسين وخميس شحاته.
إضافة إلى الأعمال التي تستمد مقوماتها وموضوعاتها من التراث، كالفنانة ثريا عبد الرسول، التي اعتمدت المنمنمات كتقنية وتشكيل، وسعد كامل كاستلهامه التراث في عروس المولد وتحاوير شكل المشربيات، وطه حسين في اعتماده الخط العربي. ولكن المجتــمع الاستـــهلاكي كان بالمرصاد، وعبّر عنه العديد من التشــكــيليين المصريين، كما في لوحة «العامل» لحــامد عويس، الجالس لا يعرف ماذا يفعل، جلسة ليـســت للـراحــة، ولكن جلسة قلق من مستقبل غير معلوم، اللوحة التي رسمها عويس عام 1989، تحققت هواجسها تماماً منذ منتصف تسعينيات القرن الفائت وحتى الآن.

التشكيل المصري وما بعد الحداثة

تشير هبة الهواري إلى أنه من عام 1989 وحتى الآن يعيش التشكيل المصري فترة من أهم فتراته، جيل الشباب الذي انفتح على العالم أكثر، بفضل التقنيات الحديثة وثورة الاتصالات. جيل التسعينيات هذا أصبح يختلق تراثاً ذاتياً، كتداعيات الطفولة وما شابه، وبالتالي لهم عليه السيطرة الكاملة، بعيداً عن تراث الأجيال السابقة، إضافة إلى حرية الإسقاط السياسي والاجتماعي. كذلك سمة الجمع بيت المتناقضات في العمل الفني، مما يخلق حالة من الجدل دائم في اللوحة، فتتجلى الحالة الفنية من إحساس المتلقي بإيقاع العمل الفني والتحاور معه ــ الأمر إن جاز التعبير أشبه بقصيدة النثر ــ حالة قوية لخلق قيم فنية وتشكيلية جديدة، من مفردات الحياة اليومية وموجوداتها، بعد إيجازها وتقديمها في رؤية جديدة حسب وعي الفنان. ومن فناني جيل التسعينيات.. محمود بشندي، وسامي كشك، وشادي النشوقاتي، ووائل شوقي، ورحاب الصادق، وخالد سراج.

التشكيل المصري وإرهاصات ثورة يناير

وفي الفصل الأخير من الكتاب تحاول المؤلفة استنتاج الحِس الثوري والتبشير به من خلال أعمال عدة فنانين من الجيل الجديد، متوسلين معظمهم بأساليب ما بعد الحداثة في معالجة موضوعاتهم، كالتجهيز في الفراغ، والعرض الأدائي أو التفاعلي. كما في عمل رامي محمود «الطريق إلى الثورة» وفيه تبدو يد الزعيم سعد زغلول وهي تمتد على اتساعها، بينما جسده اختفى، وقاعدة التمثال وكانها في الفراغ تنتظر، قاعدة صلبة كقواعد التماثيل الفرعونية، ويد الرجل الشهيرة كما جسدها مختار من قبل في العديد من أعماله النحتية. وفي عمل آخر لنهلة رضا، جاءت بثلاثة مُستنسخات من صورة للقاهرة، وعليها عبارات بالإنكليزية، مختوماً عليها باللون الأحمر «يُعتمَد»، وقد أصبحت موسومة بما يراه الغرب وقد تم مسخ المدينة تماماً.
وفي الأخير وعلى كثرة المعارض التشكيلية والفنانين التشكيليين، يبدو بالفعل أن هناك روحاً جديدة، وإن كانت القِلة منهم يجسدونها، ولكن الفائدة أن الحالة التشكيلية منتشرة ومستمرة في الإنتاج، وابتعدت تماماً عن آلهة تمت صناعتها بمهارة من قِبل آلهة سياسيين، منسوخين بطبعهم. فالتشكيل المصري في اللحظة الراهنة ــ رغم تبايناته الشاسعة في المستوى والفكر ــ يبدو في حال أفضل من سنوات كثيرة مضت.

هبة عزت الهواري: «تحولات التشكيل المصري المعاصر (1967 ــ 2011)»
المجلس الأعلى للثقافة/القاهرة، سلسلة الكتاب الأول 2015
230 صفحة

هبة الهواري في «تحولات التشكيل المصري المعاصر (1967 ــ 2011)»: رؤى الفنان المصري في ظل أزمات المجتمع

محمد عبد الرحيم

Source: alghad.com

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *