وآتيناهُ أشدَّهُ
[wpcc-script type=”2bcaff628ba1a9ac26be6e7a-text/javascript”]
(1)
لَم يكن يعلم بأن الحُمّى التي أصابت والدته بعد ولادته بأيام قليلة، سوف تؤثّر فيه طيلة حياته، إذ مشى الحليب الذي أرضعته إياه المرضعات في المشفى في عروقه، ليشكّل له ذائقة مختلطة من هوامش أُسريّة مختلفة، ما كان له أنْ يتوارثها جينيّاً، لو بقي على حليب من ضرع جيني واحد.
رغم تعدّد المُرضعات إلا أن البكاء الهلامي الطفولي لَم يفارقهُ، فالشيء الذي لا تُحسِنُ المرضعات تعويضاً له، تلك الأنفاس التي تتدفق من الحبل السرّي الذي جمعه مع رحم والدته تسعة أشهر إلا أسبوعاً، لهذا كُنَّ يحاولن تعويضه بالمرور به إلى الغرفة التي تقيم فيها والدته، وإذ يشمُّ أو يستصلح مجرى الأنفاس التي تعبق في الغرفة، إذ ذاك سرعان ما تصيبه رجفة النهاوند، فيزداد نشيجاً، ولكن بعد أن يطوي ذراعيه الصغيرتين على خدّها.
الأيام تسير كالمعتاد على الوالدة وابنها، رضاعة، اشتياق، نهاوند، وحبل سري جديد خُلِقَ بينهما يمتد بين غرف المشفى، لكن المسافة التي تفصل بينهما تكاد تزدادُ يوماً بعد يوم، لهذا حَرَّم على نفسه المراضع، ليستقرّ قلب والدته، إذ عاد يلهو على صدرها مكتفياً بالدغدغة.
أيام شارفت على (وآتيناه أشدّهُ في المستشفى)، إذ صار يقوى على تحريك ريقه والتقاط إبهام يديه، حينما سمح الطبيب لوالدته بالمغادرة بعد أن تحسّن وضعها الصحي.
للأفعى التي تتلوى في جبال (القِرْب) قوّة الانعطاف إلى الداخل والارتباك والقلق، هكذا تصطك عجلات السيارة بالحفر الترابية المليئة بالأحجار التي غربتها عن مواضعها الرياح، الأفعى التي تفصل مستشفى (القِرْب) عن مخيم بلاط الشهداء في الشمال القصي، القريب والمطلّ على جبل الشيخ، والمكان الذي يصغي لتراتيل جبال فلسطين غرباً.
المخيم الذي قسّمته وكالة الغوث إلى ثلاثة بلوكّات رئيسية، تنسلُّ الأول من سفح تل إربد وبينهما مقبرة فائضة بالعشب والأشواك والأحلام التي تركها الراحلون، فيما يجلس في الوسط الثاني، يتبختر في زهو ضيائه الذي سيفرد بعد سنين عباءته على الكثير من المناطق المحيطة بالمخيم، أما البلوك الثالث فهو الشرفة التي تشرف على سهل حوران من الشمال، وكم دخل التحاسد بين أهل المخيم نظراً إلى اللوحة البصرية التي ينشرها هذا الامتداد الذي لا يحدّه شيء.
المخيم، البيت، الوحدة السكنية، الجدران المُغلقة على الداخل، النافذة الوحيدة التي تطل على الشرق، وتخفي جهة الغرب، وكأنّ حسابات دقيقة أرادت لهذه الهندسة أن تكبت النظر إلى الغرب، خشية كركرة الحنين في الصدور، غير أن تلك الحسابات لم تكن لتعيَ أن الحنين هو في الجينات المتوارثة، التي يتناقلها جيل بعد جيل.
كان بيت مصباح سليم القومي في البلوك الثالث، شاهداً على الكثير من التدريبات التي أجراها المنتمون إلى الثورة الفلسطينية في منتصف ستينيات القرن الماضي، بعد ولادته بستة أعوام، فهو يمثل الشرفة الأجمل لغرف المخيم الطينية، التي تعلوها ألواح الزينكو والمتلاصقة والتي تجترح من العتمة أسئلة لهذا الضيق، وتنفرد بمعانقتها لسهول حوران، حتّى أنّ مختار المخيم المقدسي ضرب كفّاً بكف حينما سُجّل البيت باسم عائلة ( القومي)، و(القومي) نسبة إلى قرية قومية من أعمال بيسان، القرية التي تقع على هضبة مرتفعة، وتحيط بها أراضي قرى الطيبة ويبنى والمرصص وشطة، وتحيط بها مجموعة من المواقع الأثرية أهمها: خربة جبع وتل الشيخ حسن في الجنوب، وفيهما مغائر وصهاريج منقورة في الصخر. القرية التي قامت المنظمات الصهيونية المسلحة بهدمها وتشريد أهلها، والتي تشير المعلومات إلى أن موقعها بكامله مسيّج. وتنمو أشجار اللوز والتوت والرمان ونبات الصبّار حول الحطام المبعثر في موقعها. كما تنمو أشجار السرو بين أنقاض مدرسة القرية، المدرسة التي كان جدّ مصباح أستاذها الوحيد إلى جانب كونه شيخ القرية وخطيبها.
بيت عائلته يتكوّن من ثلاث غرف وساحة سماوية، خصصت الغرفة الأولى التي تتكئ شمالاً لاستقبال الضيوف، فيما أخذت الأسرَّة الأرضية المكونة من حصيرة وفُرش مكانها في الجهة الغربية، وخصصها سليم القومي لبناته الأربع مع الاعتماد على الساحة السماوية لنوم الأولاد الستة بعد أن تقضي العائلة ليالي سمرها، بينما خصصت الغرفة الشرقية لسليم وزوجته صالحة، أما المطبخ فقد اتكأ على الخاصرة الشرقية الشمالية ومنه باب خشبي له صرير يشير إلى مكان الحمام. امتلأ البيت بالزوّار بعد عودة صالحة من المستشفى، الأقرباء والجيران والأصدقاء، كانوا يأتون فرادى وزرافات، وكان مجيئهم يشكل بالنسبة لأفراد العائلة عيداً، لأنهم سيقضون وقتاً أطول في السهول المترامية أمام البيت إلى ساعة متأخرة من النهار، بحثاً عن الجلتون والخيار والفقوس، إلى جانب نصب الفخاخ للعصافير، وكثيراً من كانت الحارة تعبق برائحة الشواء، كما كانوا يُفرّغون طاقاتهم بلعب الكرة بعد أن يؤسسوا إطاراً للملعب ومرماه من الحجارة.
شهر بكامل هيجانه انقضى بعد خروج صالحة وعودتها مع وليدها مصباح، إذ اختار سليم لابنه هذا الاسم لإكمال دائرة الإضاءة في البيت الذي كان يضاء باللوكس أبو شبرة، كما كان يردد في مجالسه، حيث الحياة بدائية، وقلة اليد تبدو تتساوق مع شوارع المخيم، أو (دخلاته) كما كنّا نطلق عليها، الشوارع التي كانت قباب الطين تعلو فيها أمام حركة الناس، شهر بكامله، والعائلة تستقبل الضيوف فرادى وزرافات، ومصباح تتناقله الأيدي، وقد تنبّأتْ له أمُّ جلعد بالكثير من الحياة الهادفة، وهي التي اختلفت في أصولها الجارات، فمنهن من قال إنها من بدو فلسطين، وأخريات أكّدن أنها من أصول يمنية لفصاحة لسانها، لكنهنّ أجمعن على صفاء سريرتها، وقدرتها على قراءة الطالع.
(2)
بيت من القناطر المعلقة في بلدة (القِرْب) من أعمال الجنوب الغربي للمخيم، استدعى اتصال النهر بضفتيه، تحيط به أشجار أضحت شوكية المآل بعد أن هجره أهله لسنوات طويلة، وأصبحت ساحاته وغرفه موطناً للمشردين من الأجناس الكونية، بيت لَم يشهد وقوفاً على آثاره أحدٌ غير الجدّة « فضّة»، تلك الجِدّة التي زوّجها والدها لأحد أبناء (القِرْب)، وترك لها مساحات واسعة من الأراضي التي كان يدفع ضريبتها للإدارة العثمانية، وكانت الأراضي آنذاك تؤول إلى من يدفع الضرائب، إذ ذاك كان الشيخ (القُومي) ميسور الحال، لهذا تملّك مساحات شاسعة من الأراضي، تركها في عهدة ابنته وزوجها بعد أن اقتطع لها حصّتها من الميراث، وهاجر باتجاه فلسطين للعمل فيها.
توفيق الجَمَل زوج (فضّة)، أحد شيوخ بلدة (القِرْب)، رقيق الجانب، واسع البصيرة، فارع الطول، وأحد سكّانها القلائل الذين كانوا يُسارعون في الجهات العشائرية التي تُنصب لغايات الصلح، وأحد سكّانها الذين لم تكن لِتُردّ لهم كلمة إن قال أو قضى، حين عاد سليم القومي وزوجته وابنهما الصغير (رافع) الذي لم يبلغ من الأعوام سوى ثلاثة أعوام، وابنتهما الصغيرة (مَجد) التي لم تبلغ سوى خمسة أشهر، حين عادوا إلى (القِرب) لاجئين من فلسطين بعد الهزيمة الكبرى، احتضنهم وأسكنهم في بيت جدّهم بعد أن قام أهالي البلد بتوضيبه وتنظيفه من الهوام.
عادة ما تكون الحياة التي تأتي بعد لجوء صعبة المِراس، فهي تقع بين الألم والأمنية، بين الواقع والمتخيّل، بين الخضوع لتعبر الرياح وبين الأنفة التي تسقي أعالي الشجر، وبين النّوم باكراً لتنقضي ساعات الحيرة والقلق وبين السهر للبقاء على بصيرة اللاجئ مشرعة باتجاه مسقط الرأس، إذ ذاك كانت (صالحة) تستعد لتركيب ماكينة الخياطة التي اشتراها لها توفيق الجمل زوج عمتها، لِتُعين الأسرة اللاجئة على الحياة، فمتطلبات الحياة في وضع الانسلاخ من الأرض «قسراً»، تشكّل عبئاً على أسرة تركت ميراثها المعيشي خلفها، بعد أن سمعت بالمجازر التي قامت بها عصابات الصهاينة، إذ سمعت بذلك، مثلها مثل الكثير من العائلات الفلسطينية، قررت اللجوء إلى قرية (القِرب)، وفي أيام قليلة كانت الفنّيات التي تتقنها « صالحة» بالقماش حديث أهالي القرية، وساهمت بذلك زوجة توفيق الجمل، عمّة صالحة، فيما ظلّ سليم القومي بلا عمل، فالقرية التي تقع في الطرف الغربي من الأردن لا يتجاوز عدد سكّانها الثلاثة آلاف نسمة، وأبناؤها جُلّهم يخدم في القوات المسلحة أو دوائر الحكومة، تحتاج للكثير من الأعمال التي هجرها أهلها باتجاه الوظيفة، حيث اقترح نسيبه توفيق الجمل عليه ذات مساء أن يفتتح محلاً لبيع الحمص والفول والفلافل.
دفع توفيق الجمل بعضاً من النقود لسليم القومي من أجل التحضير لافتتاح المحل، وبعد استشارات مع أبناء عمته فضّة حول المكان وشراء الأدوات اللازمة، توجّه سليم مع غازي ابن عمته الأصغر إلى الساحة الرئيسية في القرية، فوقعت عينه على محل مغلق يقع قبالة المركز الصحي، فتمّ استئجاره من صاحبه، وبعد يومين نزل سليم وغازي إلى مدينة إربد لشراء الأدوات، فأصبح المحل وماكينة الخياطة مصدر رزق للعائلة.
ستة أشهر مرّت على سليم القومي في قرية (القِرب)، ستة أشهر بقضّها وقضيضها، استطاع ان يوفّر بعضا من النقود، فالغاية التي استقرت في ذهنه منذ اليوم الأول للجوء هي أن يسكن في مدينة إربد، لسعة إيجاد عمل يعيل من خلاله أسرته، إذ ذاك، استأذن زوج عمته باصطحاب ابنه غازي ليكون دليلاً له في شوارع يطأها لأول مرة في حياته، وصلا المدينة، انتقلا من مجمع عمان إلى وسط المدينة مشياً على الأقدام، وكلما مرّا بمكان تراثي، كان غازي يشير إليه «هذا مبنى البريد» و«هذا بيت جمعة»، وهذا بيت علي خلقي الشرايري، وهذا بيت عرار شاعر الأردن.
٭ روائي فلسطيني
فصل من رواية ( بيوت التَّنك) تصدر قريبا
أحمد الخطيب