وضع موسيقي متلعثم… أي مستقبل لموسيقانا العربية؟
[wpcc-script type=”3d551649f6c72af5023d204f-text/javascript”]
إن موسيقيينا يتخبطون في عالم النغم بلا دليل، تراهم يقلدون أو يبحثون عن مسالك للإبداع ولكنهم عموما ما زالوا يؤدون أدوارا هامشية قاصرة على التأثير في حركة المجتمع. والحال أن مجتمعاتنا العربية اليوم في أشد الحاجة إلى تغيير فني يسهم وفق طريقته الخاصة في بلورة وعي ثقافي جديد يخرجنا من منزلة المستهلك للحضارة ومنتجاتها إلى منزلة الخلاقين المشاركين الذين يثبتون بجهدهم أنهم حاضرون في العالم ولهم آثار تدل على وجودهم في خريطة الإبداع والابتكار.
إننا نتساءل عن وضعية الموسيقى ودور الأغنية باعتبارها فرعا من الموسيقى، لا نرغب في جلد الذات بقدر ما نرغب في إضاءة جوانب من الخلل الذي نلاحظه في موسيقانا العربية من دون أن تبرز الحلول الناجعة لرتق الفتق.
فمن المسلم به أننا نحتاج إلى مبدعين كبار في مجال الموسيقى، ولكن وقبل ذلك علينا أن نتساءل كيف يولد هؤلاء. إنني على يقين بأن على أرضنا عباقرة، لكن أحدا لا يعرّف بهم لأنهم هم أنفسهم قد لا يعرفون قدراتهم، وعلينا لأجل هذا أن نفتح أمامهم السبل. فصناعة المبدعين صناعة خطيرة عظيمة، وحتى نكون واقعيين أكثر في عالم أصبح فيه الفن تعبيرا ثقافيا بقدر ما هو بضاعة لها سوقها وتدر على المبدعين ما يضاهي أرباح أكبر الشركات، فإننا نحتاج إلى أخذ هذا في عين الاعتبار. والحق أنه لا يكفي أن يكون لدينا معهدان أو ثلاثة للموسيقى، ولا يكفي أن نقيم مهرجانا موسيقيا هنا وهناك، وآخر للأغنية من دون أن نخطط جيداً لغاياته القريبة والبعيدة ولاستراتيجياته، فالأمر يحتاج التخطيط لهذا كله.
إن المشكلة تكمن في البداية والأسس التي تكفل لنا النهوض بموسيقانا. لا مفر من الاعتراف بأن الأسس ليست سوى الأطفال. فهم مستقبلنا الذي لابد من ضمانه، بما أننا خسرنا الكثير من الحاضر. لذا لابد أن تنطلق أحلامنا منه، وعليه نعول حتى يكبر الحلم. ولنا في تجربة فرنسا دليل بليغ الدلالة على ما نقول، فقد اتجهت منذ سنوات خلت صوب الأطفال لتضمن التوازن المرجو، بعد إن انحسر سماع الموسيقى الآلية بشكل ملحوظ فعادوا إلى المدارس ورياض الأطفال كي يحافظوا على هذه النوعية من الموسيقى. فمجتمع لا يميل إلى سماع الموسيقى مجتمع غير سوي يحتاج إلى دراسة وتمحيص.
ومن هنا فإننا نحتاج إلى دعوة الخبراء في المناهج الموسيقية في الأقطار العربية جميعا لوضع برامج وخطط مرحلية لتدريس الموسيقى، وما هو مهم من الثقافة الموسيقية في وطننا العربي.
ولعلني أميل إلى أن مهمة مثل هذه لا يمكن أن يضطلع بها إلا صاحب صولجان يعي أهمية الموسيقى ووظيفتها الحضارية، فالتاريخ ينبئنا بأن الذين خدموا هذا الفن وغيره من الفنون كانوا من القياصرة والملوك والخلفاء والحكام، فخلّدوا أنفسهم وتركوا للإنسانية ما به تنتفع . إن مثل هذه الخطوات البسيطة كفيلة بنشر التذوق الموسيقي، فتيسر تحقيق الإبداع وإبراز المبدعين وتغيير سلوك المجتمع القادم، نحن في عالم يشكل تصوراته على حد كبير مما يصلنا عبر الأقمار الصناعية ووسائل الاتصال الرهيبة من صور وأنغام وضوضاء تخترق العقول والنفوس، فأي مجتمع سنكون إذا لم نحصن أنفسنا ومجتمعاتنا من كل هذا التلوث السمعي وخطورته؟ وعلاوة على ما ذكرنا فإن للموسيقى دورا في جعل الطفل متعمقا في ثقافة بلاده وتاريخها، منفتح العقل والوجدان على بقية الفنون والعلوم يكون قادرا على اختيار مسموعاته وانتقائها بعيدا عن الإسفاف والتردي الذين نعيشهما اليوم، بشكل لا يثير إلا الاشمئزاز والقرف، والحال أن الموسيقى أضحت علما ومعرفة.
ولا يمكننا أن نتوقف عند ما ذكرنا، بل اننا نحتاج إلى إنشاء مدارس موسيقية في مختلف المناطق لإعداد الموهوبين محليا حتى يتمكنوا من الالتحاق في ما بعد بالمعاهد المتخصصة، ولعل هذا قد يتم ببث الموسيقى الآلية مجردة من الغناء في أوقات تتيح للنشء تذوق هذه الموسيقى وعلمها مستعينا ببعض الشروح المبسطة.
وليس بخفي علينا أننا نحتاج في ما نحتاج إلى عناية أكبر بمادة النقد الموسيقي في معاهدنا واعتقادنا الراسخ في أن النقد المصيب يوجه الفن والفنان والجمهور فيرتفع بالذوق العام ويصقله.
من المفارقات اللافتة للانتباه أن موسيقانا العربية اليوم تتميز بالسهولة في كتابتها وعزفها وحفظها، على عكس معظم موسيقانا التقليدية التي يتطلب منا إتقانها وقتا كبيراً وجهدا عظيما، فهل يدل هذا على أن أغنيتنا العربية المعاصرة فقدت مصادر إبداعها؟ من هنا تنبع الحاجة إلى الاهتمام العميق بالآلات الموسيقية العربية وطرق تدريسها، لأنها هي الوسيلة الوحيدة التي ستمنح إبداعنا الموسيقي روحه وجوهره، وإن كان علينا أن نبحث على قوالب موسيقية جديدة تستفيد من ثراء مقاماتنا وتنوعها.
إن خلق مستوى عال للتذوق الموسيقي لا يكون البتة إلا إذا عملنا على تطوير وسائلنا التربوية في مجال تدريس الموسيقى، وأكبر ظننا أن دروس الاستماع الموسيقي في مؤسساتنا التربوية، حيث الأطفال والشباب، وما تشفع به من شروح محببة للموسيقى وكاشفة عن بعض أسرار المقطوعات المنتقاة بعناية، سيمكننا من الخروج من متاهات الآهات والندب والبكاء على أطلال هوت، والانفتاح على موسيقى ذات موضوع يستطيع الإنسان أن يفهمه ويناقشه ويشارك في الكشف عن معانيه ودلالاته إثراء للكيان وصقلا للروح الإنسانية العميقة والعقل الناقد.
ومن المعلوم إن تعلّم الموسيقى وتذوق المؤلفات الموسيقية الرفيعة سلم طويل صعب يتطلب منا جهودا استثنائية، وهي مسؤولية ملقاة على عاتق الموسيقيين والمجتمع والدولة بكل أجهزتها، خصوصا الأجهزة التربوية والإعلامية.
إننا حين نبدأ مشروعا حضاريا مثل هذا سنكون قد شرعنا في القضاء على الفساد الذي حل بموسيقانا فهجنها، والغريب أن في وطننا إيقاعات لا حصر لها! وأنغاما متنوعة ومثيرة للأحاسيس والعقل فلم نترك زمام الأمور يفلت من أيدينا؟ لسنا في حاجة للتذكير بالأثر السيئ الذي تتركه في الغرب والشرق الموجات المتعاقبة من الموسيقى الصاخبة بإثارتها لمشاعر العنف وتشجيع تعاطي كل ما يذهب بالعقل وكل الشرور. والحال أن الموسيقيين اليوم مطالبون بالعمل على نشر المحبة والسلام عبر أنغامهم، ولابد لهذه الأنغام أن تتضمن أفكارا إنسانية تجعلها حية في عقول الناس ووجدانهم.
هل من المستحيل تحقيق هذه الأماني البسيطة؟ وهل ستبقى المؤسسات السمعية والمرئية غير مكترثه بكل ما يكتب عن دورها في ترويج الفن الهابط والموسيقى الرديئة. وهل تبقى أنظارنا متجهة قبلة الغرب باعتباره مثالا يحتذى؟ متى نكون نحن المثال؟ أسئلة كثيرة وواقع موسيقي متلعثم…
موسيقي عراقي
نصير شمه