«رمال جرودوفسكي» و«VHS كحلوشة»… خيال الآلهة وخيال المخاليق
[wpcc-script type=”90875ff578c252fa5f0fab97-text/javascript”]
القاهرة ـ «القدس العربي»: أن تخلق عالما في ذهنك، وتصوغ أدق تفاصيله.. شخصيات وأماكن وأحداثا، وحكاية يقودها بطل خارق، يحمل رسالة ما للإنسانية، ويحاول أن يجعل الحياة أكثر قابلية لأن تُعاش، فأنت إذن تقارب الآلهة وتحاكي صنائعها، وبما أنك تنظر من سماء خيالك، فإنك لن تعرف شيئاً عن البشر.. نوازعهم وآمالهم وأحلامهم التي لا تعرف الحدود. لتكن إلهاً أو مخلوقاً، حسب مشيئتك، لكن في جميع الأحوال عليك أن تتحمّل وحدك النتائج.
من خلال فيلمين وثائقيين تبدو هذه المقارنة منطقية إلى حدٍ بعيد، الفيلم الأول هو «رمال جرودوفسكي» من إخراج فرانك بافيش، وإنتاج أمريكي فرنسي عام 2013، والآخر بعنوان (VHS كحلوشة) للمخرج نجيب بلقاضي، إنتاج تونسي عام 2006.
أن تضع جرودوفسكي أمام كحلوشة هو أمر مثير للسخرية، لكن الفعل الإنساني قادر على تخطيها أو عدم الالتفات إليها، بما أن للإرادة هنا الكلمة العليا، والسعي وراء الحلم حتى النهاية وتحقيقه هو الذي يعطي لحياة المخاليق معنى، أما الآلهة التي اكتفت بتصوّر العوالم واستراحت أو تشكّت من قِلة الحيلة، فمصيرها المتاحف ومشاهدتها في محبسها خلف أقفاص من زجاج.
Dune
عن قصة بالاسم نفسه لستيفن كينج، يبدأ حلم التشيلي إليخاندرو جرودوفسكي بتشييد كواكب خيالية، وعوالم أخرى، يبدأ في كتابة السيناريو، ويختزل ويضيف للحكاية ما يتوافق مع مخيلته الرحبة، البطل يتم خلقه من نقطة دم بين رجل وامرأة، لا يوجد اتصال جنسي، يُغادر كوكبه من ظلم بيّن، ويعود أقوى مما كان ومستعدا أكثر للقتال واسترداد مملكته الضائعة، الرحلة المعهودة في الملاحم الكبرى، ليصبح Dune هو ملحمة العصر الحديث، رحلة الأنبياء والمتصوفة، على مستوى الزمن والروح والوعي، في حالة سيريالية تحكم أعمال جرودوفسكي. هكذا يقرر الرجل أن الحكاية أصبحت تخصه وحده، وعليه الآن أن يحشد مُحاربيه من الفنيين والتقنيين والممثلين، وفي أي مكان في العالم، بداية من مصممي الأزياء والديكور، مروراً بالموسيقى، وحتى الاختيار الدقيق للممثلين، ليصبح العمل يضم كلا من سلفادور دالي وأورسون ويلز!
يسرد جرودوفسكي أدق التفاصيل، بمشاركة منتج حلمه، المنتج الفرنسي الذي دعاه إلى باريس لينفذ هذا الحلم. وبعد اكتمال التجربة على الورق، ورسم الفيلم لقطة لقطة، تصبح الرحلة واجبة إلى هوليوود للمشاركة في الإنتاج الفعلي، للعمل الذي مُقدّر له أن يُعرض في 14 ساعة، يقول جرودوفسكي إنه يصنع أهم فيلم في التاريخ، لكن أبواب هوليوود تغلق في وجهه، ويعود حاملاً السيناريو المقدس بين يديه، ليحتل الغضب ما يقارب على الـ 35 عاما، يتوقف خلالها عن العمل، ويكتفي بإلقاء محاضرات في السينما والفن، ويُعاند هوليوود، ويُعيد إنتاج السيناريو من خلال فن الكوميكس ــ من رواية إلى سيناريو سينمائي وصولاً إلى كوميكس وألعاب الفيديو جيم ــ حيوات أخرى للحكاية. والرجل لا يستطيع أن ينسى أنه تحطم وسُرق حلمه في غفلة.
سرقته هوليوود، وتم إنتاج الحكاية في فيلم لاقى من الفشل ما جعل جرودوفسكي يتمسك بحلمه أكثر، ويحكي كيف ذهب خائر القوى، وعلى وشك الإغماء ليُشاهد ما فعلوه بحكاية عمره، إلا أنه تنفس في النهاية وهو يشهد فشل هوليوود، ولكن الحرب لم تنته، استنسخت هوليوود شخصية بطل Dune في عدة أفلام لاقت من النجاح ما جعل الرجل حبيس حجرته، كحرب النجوم، وكل المخلوقات الخارقة، ليبدأ هذا الشكل أو النمط الفيلمي في الظهور والدوران في فلك صناعة السينما الأمريكية، وتطويره وتصديره إلى العالم، ولتسرق هوليوود رفاق جرودوفسكي .. منفذي ورسامي Dune، وليحصلوا على جوائز الأوسكار، وهو يطالعهم في التلفزيون، ليظل حبيس هذا الحلم، ويُقر قبل موته بأنه يأمل في أن يأتي أحد ويحقق حلمه المفقود، لأن الفن أبقى منه، وهو سيعيش من خلاله مئات السنين.
كحلوشة
في أحد الأحياء الشعبية في مدينة سوسة في تونس، يعيش (المنصف كحلوشة) رجل عمله الأساس هو طلاء المباني، لكن حلمه الوحيد هو صناعة الأفلام، أفلام شاهدها ويحاول تقليدها، ورغم إمكاناته المتواضعة يسعى وينفذ بالفعل هذه الأفلام، فقط بكاميرا VHS محمولة، يقوم بالتصوير أحد الأصدقاء، وفي حجرة أحد البيوت المتواضعة يجلس صديق آخر أمامه أجهزة بدائية لعمل مونتاج الفيلم. يقوم المخرج نجيب بلقاضي بتصوير تجربة نجم الحي الشعبي/كحلوشة، وهو يقوم بالإعداد لفيلمه الجديد «طرزان العرب».. بداية من شراء الإكسسوارات اللازمة، وتنفيذ المشاهد الصعبة كالقتل وإشعال النيران، كحلوشة يكتب ويؤلف ويُخرج، ويتعارك مع المونتير كشأن كل المخرجين ــ الفيلم بالكامل في ذهنه، ولابد أن يخرج كما يراه ــ ويشرف على تجهيز العرض بأكبر مقاهي الحي، ويراقب بيع التذاكر. يذهب بالبطلة إلى الكوافير، ويطلب من مصفف الشعر شكلا معينا، حتى يتناسب والدور المرسوم. والممثلون من أهالي الحي، بينما الأم تقف في ساحة البيت ــ الذي ستشتعل النيران بعد قليل في إحدى حجراته كما يتطلب المشهد ــ وهي تُرقي ابنها والعاملين معه، وتعلو بيدها فوق رؤوسهم حاملة مبخرتها!
يرصد بلقاضي حالة كحلوشة ورفاقه، حالة تصديق الحلم وتحقيقه، وخلق عالم لأفلام المغامرات وسط بيئة تناساها الجميع، ليتضح جيداً الوضع الاجتماعي لهؤلاء، ما بين السفر والعودة الخائبة، والحلم الدائم بالهجرة من الحي، وما بين تناول المخدرات أو شرب الخمر، وإخفاء الأسلحة في البيوت لوقت الحاجة، فلحظات الشجار وشيكة على الدوام، والكل متحفز ومتربص، حالة مزمنة من البطالة ولا أمل يأتي، فقط هذا الرجل هو الذي يحقق شيئا ما، يدفعهم إلى مساعدته، فكل البيوت مفتوحة أمامه للتصوير، ونساء الحي يقمن بالتمثيل عن طيب خاطر، حتى أن أحد ساكني الحي والمقيم في إيطاليا، عند زيارته أهله، لا ينسى أن يأخذ معه لرفاقه هناك آخر أفلام كحلوشة، ليُطالعوا دروب وبيوت ووجوه الحي وناسه. يعبر شريط الفيديو VHS البحر، كما عبر كحلوشة كل المعوقات بخياله، ويُصر على تحقيق هذا الخيال. في أحد المشاهد يتم تصوير كحلوشة وهو يضرب أحد الرجال، ويُصيبه بطلق ناري، ولابد من دماء مكان الإصابة، فلا يتردد كحلوشة بأن يجرح يده بسكين، ويأخذ من دمه ويضع منه بعض نقاط فوف ملابس الممثل المقتول، هنا عند القلب، ليصبح المشهد حقيقيا، فالجمهور لا يجب استغفاله!
وتأتي الليلة الكبيرة ويوم العرض، والحي بالكامل في حالة ترقب، والمقهى امتلأ بالرواد، والأفيش الذي صمّمه كحلوشة في الخارج، بينما هو يترقب رد الفعل في الوجوه المُعلقة بجهاز التلفزيون الذي يعرض مغامرات «طرزان العرب» الاسم الذي اختاره المنصف كحلوشة لفيلمه، الذي يُحاكي فيه فيلم «طرزان» الشهير، وجوه مضطربة ومتوترة لما تشاهده، بينما على الجانب الآخر تتأسى النساء، فغير مسموح لهن الذهاب لمشاهدة الفيلم في المقهى، ولا يتردد كحلوشة في عمل نسخ من الفيلم، وتأجيرها لهن، ليقرن في بيوتهن مع طرزان.
إلى جانب التقنية التي استخدمها نجيب بلقاضي في تصوير فيلمه، التي تتطابق في الكثير من الأحيان مع طريقة كحلوشة نفسه في تصوير أفلامه، من كاميرا محمولة مُهتزة على الدوام، لنقل روح أفلام البطل الشعبي/ كحلوشة، يستعرض بلقاضي الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية لأهالي الحي، الذين قد يجدون فرصة للعمل مصادفة خلال الصيف، فهو موسم السياحة في المدينة الجميلة، حسب تعبير العديد من السائحين، وكأنهم يلتقطون التصاوير الشبيهة وخلفيات كروت البوستال، بينما سكان الحي يكون الإقصاء عن العالم هو قدرهم، فمعظمهم سُجن أكثر من مرّة، حتى أن أبطال الفيلم يأتي ذكرهم في النهاية، لمعرفة مصائرهم بعد الانتهاء من الفيلم، في التيتر الأخير، وقد أصبح معظمهم داخل السجن، لقضاء عقوبات متفاوتة المدة.
قد يدعو الأمر إلى السخرية، لكن الخيال في كل من التجربتين هو الذي يسوق ويخلق الحكاية، ويجعل أصحابها يتنفسونها، رجل حقق نجاحاً عالمياً بأفلامه وانتهى بالفشل في تحقيق حلمه الأكبر، وآخر حقق نجاحا في نفسه أولاً، وعلى المستوى النفسي لأصدقاء وشباب يتنفسون الإحباط، حي بالكامل يهتف لهذا المهووس بالسينما، ويصبح آلان ديلون وبلموندو وأفلام العصابات والمغامرات هم مثله الأعلى، وقدر المُستطاع يخلق عالما شبيها بعوالمهم، ويصبح كل فتى ورجل في الحي يُشارك في البطولة والتمثيل، ويشعر بقيمته في وجوه جيرانه وباقي رفاقه.
المسألة هنا تتعدى تجربة فرد، لتصبح حلماً جماعياً لمخلوقات منسية، حلماً تحقق، وشد في النهاية ضحكات وتصفيق الجميع. على موقع IMDB حصل فيلم Jorodowsky’s Dune على تقييم 8.1، بينما حصل VHS كحلوشة على تقييم 8.2.
محمد عبد الرحيم