«مُنعطف ما بعد الحداثة» للمصري إيهاب حسن: نموذج عقلي يتجاوز الزمن
[wpcc-script type=”ef897b3e7afd6757b34b0c93-text/javascript”]
القاهرة ـ «القدس العربي»: «فلتعرفُ أولاً أن أي نظرية جديدة تُهاجَم كشيء عبثي، ثم تُعرَف كحقيقة واضحة، لكن ثانوية، ثم تُرى في النهاية مُهمة، حتى ليدّعي خصومها أنهم مَن اكتشفوها». (وليم جيمس). بهذه العبارات يفتتح (إيهاب حسن 1925 ــ 2015) مؤلفه «مُنعطف ما بعد الحداثة» وهو مجموعة من المقالات تدور حول سؤال ما بعد الحداثة، خلال عشرين عاما، عاكسة لسيرة المؤلف نفسه.
وبالعودة إلى العبارة الافتتاحية، التي اقتبسها حسن عن وليم جيمس، ربما تكون رداً على مُنتقدي تيار ما بعد الحداثة، الذين يرونه مفهوماً أو نظرية مُنغلقة، يقول حسن: «أدرك أن هذا كله لن يرضي أحداً يطلب (تعريفاً) أكثر تحديداً لما بعد الحداثة. لكن الأفعال البشرية لا تتبع دائرة أو مربعا مُحكما كالأحداث التاريخية، فهي تروغ من التحديد البدهي». لذلك ينبغي قراءة ما بعد الحداثة بوصفها تمهيداً لمرحلة ما بعد الفلسفة التقليدية، وما الحديث عن خطاب ما بعد حداثي بوصفه لا يبشر إلا بكل ما هو تجاري واستهلاكي، هو حديث أيديولوجي في المقام الأول. ويلفت حسن دوماً إلى التناقض الواضح بين مفهومي الحداثة وما بعدها، فإذا كان الأول يُظهر التماسك والانغلاق والنظام الأكثر عقلانية، فالآخر يُجسد كل ما هو مضاد وفوضوي وصامت، وساخر. صدر الكتاب عام 1987، وجاءت ترجمته العربية ــ 5 مقالات من الكتاب ــ للمترجم محمد عيد إبراهيم، الصادر هذا الشهر، عن دار الهلال، ضمن سلسلة كتاب الهلال.
اللغة ونبذ المعنى
«الطريقة بسيطة.. خذ صفحة أو أكثر أو أقل من كتاباتك، أو من أي كاتب، سواء كان حياً او ميتاً، أي كلمات شفهية أو مكتوبة. قصقصها أجزاء بمقص أو مُدية، كما تحب، ثم أعد ترتيب الأجزاء. أنظر بعيداً. واكتب الناتج الآن». الخيال الأدبي يعمل الآن في الصمت، في الفحش، في الجنون، وحتى بحالات ما بعد الجنس المتعلقة بالغشية الصوفية… لكن العقل الناقد لا يزال يبحث عن إعادة طمأنة التاريخ. ومن ذلك يُفسر إيهاب حسن ما أوحى به نورثروب فراي، الذي يراه يتمنى تطور الأدب من أساليب أسطورية إلى أساليب تهكمية، وهو ما تفعله الأشكال الأدبية في تطورها بالفعل، من مغلق إلى مفتوح إلى لا شكل. ويتحقق ذلك عند المقارنة على سبيل المثال ما بين (أوديب/سوفوكل) و(عابدات باخوس/يوريبيدس)، فأدويب تتوصل إلى حل صراعاتها وتبعت حالة من الاسترخاء الجزئي لدى الجمهور، إلا أن عابدات باخوس تدع جمهورها في حالة كربٍ غير مُحرر، وتعبّر أوديب كشكل مغلق عن رؤية دينية محافظة للعالم، وإحساس بالخبرة الجمعية، بينما تعبّر عابدات باخوس كشكل مفتوح عن رؤية مُتجاوزة ومتطرفة للعالم، وإحساس بالخبرة الفردية، وربما كان هذا هو اللاشكل يبدو في (في انتظار جودو/صمويل بيكيت)، رؤية تهكمية عدمية للعالم، وإحساسا بخبرة خاصة جداً. ويرى حسن أن ما بين عابدات باخوس وفي انتظار جودو عدد هائل من الأعمال الأدبية الغربية تكشف عن إحساس متنام بالتمزق، والقدرة المتزايدة على التشويه. وأصبح مجال الصراع هو اللغة، فكما يرى نيتشه أن الشر لا يتأصل في القمع فقط، ولكن في العدمية، وهي.. أن تُسلّم قياد الوعي البشري إلى معنى. وبذلك فالبحث عن معنى أصبح يتجاوز اللغة، في الحدث والإيماء، فاختراع المعنى عملية حيوية أكثر منها لفظية.
ما لا نتخيل
«يقع ما لا نتخيل في مكان ما بين مملكة الرضا وبحار الهستيريا… ونحن نستقر سعيدين في ما لا نتخيل». يمهد حسن بهذه العبارات قبل الحديث عما بعد الحداثة، التي يراها استجابة مباشرة أو منحرفة لما لا نتخيل. وبينما الحداثة تخلق أشكالها الخاصة من سلطتها الفنية ــ بخلاف الدادائية والسوريالية ــ فإن ما بعد الحداثة تميل باتجاه فوضوية فنية، في تعقيد أعمق مع أشياء تتساقط، أو تميل إلى كل ما هو شعبي.
المفهوم وتعريفه
ينفي إيهاب حسن إمكانية وجود تعريف لما بعد الحداثة، ويعدد أسباب ذلك، بداية من عدم الانتهاء من الحداثة نفسها ــ الرجل هنا يواصل مراجعاته المستمرة ــ ويرى أن التاريخ يتحرك في تواصل وانقطاع، فوجود ما بعد الحداثة لا يعني انقطاع أفكار أو مؤسسات الماضي. فكلمة «ما بعد الحداثة» تستثير ما تتمنى تجاوزه ــ الحداثة نفسها ــ فالمصطلح يشتمل على خصمه. من ناحية أخرى لا يوجد إجماع واضح على معناها بين الدارسين، كما أن البعض يُطلق عليها «الطليعية»، أو «الحداثة»! فالحدود بينهما لا تنفصلان في سهولة، لذلك قد نجد المؤلف يكتب عملاً حداثياً وآخر ما بعد حداثي ــ جيمس جويس في عَمَليه «صورة الفنان في شبابه» و»سهرة فينيجانز» ــ وبذلك يصل حسن إلى أننا «نفهم أي فترة وفق مصطلحات التواصل والانقطاع، وأننا خلقنا في عقولنا نموذجاً لما بعد الحداثة، رمزية معينة للثقافة والخيال». ويدلل على ذلك أن المؤلفين القدامى يصبحون ما بعد حداثيين، كافكا، بيكيت، بورخيس، إلا أن المفهوم يتم توظيفه كنظرية ما للابتداع، التجديد، الإحلال، أي .. التغيير.
ما بعد الحداثة الآن
يخرج حسن من متاهات وعقم التعريفات، ليقدم (ملامح) لما بعد الحداثة، التي تتمثل في .. اللاحتميات: كالغموض والقطيعة ومبدأ اللايقين، فنحن لا نقرر، بل ننتسِب. التشظي: قطع التواصل، اللاتقديس: الذي ينصب على الشرائع والسلطة كافة، الاحتفالية: كما يراها باختين هذا المصطلح الذي ينقل السمات الكوميدية والعبثية لما بعد الحداثة، فما يدعوه باختين رواية أو احتفالاً ــ ضد النظام ــ يُشير إلى ما بعد الحداثة ذاتها، أو على الأقل عناصرها الساخرة التخريبية.
*يعتبر الناقد والمُنظّر الأدبي (إيهاب حسن 1925 ــ 2015) أحد المؤسسين لمفهوم ما بعد الحداثة في سياقه التاريخي والأدبي والفلسفي والسياسي، من خلال نماذج في الأدب الأمريكي والأوروبي. ولد فى مصر عام 1925، وهاجر إلى الولايات المتحدة عام 1946، وعمل أستاذا متفرغا في قسم بحوث فيلاس فى جامعة ويسكونسن ميلووكي حتى وفاته عام 2015. من مؤلفاته… «البراءة الراديكالية: دراسات في الرواية الأمريكية المعاصرة» 1961، «أدب الصمت: هنري ميللر وصموئيل بيكيت» 1967، «تقطيع أوصال أورفيوس: نحو أدب ما بعد حداثي» 1971. إضافة إلى العديد من المقالات والمراجعات لمفهوم ما بعد الحداثة وتطوره.
الكتاب: مُنعطف ما بعد الحداثة، ترجمة: محمد عيد إبراهيم. دار الهلال، سلسلة كتاب الهلال ـ العدد (779)، القاهرة فبراير/شباط 2016. 288 صفحة من القطع الصغير.
محمد عبد الرحيم