كل ذلك بحجَّة “أنَّه ما زال صغيراً، وأنَّها لا تستطيع الضغط عليه من البداية، وأنَّها لا تحبُّ أسلوب القسوة في التربية”، إلى أن أصبحت هي مَن تُوقِظه من أجل ذهابه إلى المدرسة، ومَن تُرتِّب غرفة نومه، ومَن تُلبِسه، ومَن تُعلِّمه حلَّ وظائفه المدرسية، دون وعيٍ إلى أنّها بذلك تحوِّله إلى شخصٍ اتكاليٍّ وغير مسؤول ولا يتحمَّل نتائج أفعاله، فهو قد اعتاد على دلال والديه وتساهلهما في أخطائه، وقيامهما بكلِّ شيءٍ نيابةً عنه، فارتسم في عقله أنَّه المسيطر في العلاقة، وأنَّ أوامره لا يجوز أن تُرفَض، وأنَّ والداه المُنفذِّان المطيعان له.
لا يَعِي الكثير من الأهالي بُعْدَ مفهوم المسؤولية، فحشروا أنفسهم في أقصى اليمين أو أقصى اليسار، حتَّى باتوا متطرِّفين في تربيتهم، فإمَّا أن يتَّبعوا أسلوب الفرض والإكراه والتعنيف مع أطفالهم، أو أسلوب الدلال المبالغ فيه، وترك الأمور من دون قواعد أو ضوابط؛ فتاهوا بين الوضعين، وبقيت التربية المعتدلة المتوازنة غايةً صعبة المنال.
السؤال هنا: ما هي وصفة التربية الحديثة لخلق طفلٍ مسؤولٍ متوازن؟ وهل الطفل شخصيةٌ متكاملةٌ علينا التعامل معها بمنتهى الدقة والحذر منذ اللحظة الأولى؟ أم كائنٌ صغيرٌ لا يَعِي سلوكاتنا معه، وباستطاعتنا تغيير كلِّ سلبيةٍ في شخصيَّته عندما يكبر؟
تكمن التربية ما بين الشراكة والحرية:
هل سألت نفسك مرة: “لماذا يغضب الأهالي بشدَّةٍ إن أخطأ أولادهم، ويُسارِعون إلى انتقادهم انتقاداً لاذعاً، ويَسعون إلى فرض أمورٍ معيَّنةٍ عليهم بطريقةٍ قاسيةٍ وغير مُقنِعة؟”.
قد يكون ذلك لأنَّهم لم يَعوا بعدُ مفهوم التربية، ولم يفهموا أنَّهم وأطفالهم شركاء في تجربة الحياة، لكنَّ دور كلٍّ منهم مختلفٌ عن الآخر، حيث يعني هذا أنَّ الطفل كائنٌ كامل الإرادة والحرية، وليس من حقِّ إنسانٍ على وجه الأرض -بما فيهم والديه- التعدِّي على حريَّته، أو اتَّباع أسلوب الإكراه والإجبار معه؛ فقد خلقنا اللَّه أحراراً، ووضع أمامنا الخير والشر، وترك لنا حرية الاختيار فيما بينهما. إن كان اللَّه قد وهبنا الحرية، ولم يتَّبع معنا أسلوب الإكراه؛ فهل من المعقول أن يتعدَّى إنسانٌ على حريَّة إنسانٍ آخر ويجبره على فعل شيءٍ ما؟
يقتصر دور الأبوين في التربية على التبيان، أي عليهما أن يشرحا لطفلهما بطريقةٍ مُقنعِةٍ لماذا يعدُّ ذاك الأمر خاطئاً، كأن يُبيِّنا للطفل ما للأمر من نتائج سلبية، ويُظهِرا له سبب تصنيفهما أمراً آخر على أنَّه صحيح، فيعدِّدان ما له من نتائج إيجابية، وبعد ذلك يقولان لطفلهما أنَّه حرُّ الاختيار، وعليه تحمُّل عاقبة اختياره أيَّاً كان، ولوحده.
كيف أُعلِّم ابني المسؤولية؟
سنقدِّم بعض الخطوات الأساسية للوصول إلى طفلٍ مسؤول:
1. تُحدِث حالتك النفسية فارقاً:
عليك أن تتأكَّد بدايةً أنَّ التربية من أقدس المهام على وجه الأرض، وأنَّها مسؤوليةٌ كبيرةٌ جداً على عاتق الوالدين؛ لذلك ابدأ بنفسك أولاً، وراقب أفكارك عن التربية، فإن كان لديك أفكارٌ مثل: “أنَّ التربية مهمَّةٌ شاقَّة”، أو “الأطفال كائناتٌ يصعب التعامل معها”، أو “لا أجد نتائج أعمالي، إذ لا يتغيَّر سلوك أولادي مطلقاً”؛ فاعلم أنَّ عليك إعادة النظر في أفكارك؛ لأنَّ الحالة النفسية للأهل هامَّةٌ جداً في التربية، وهي التي تُهيِّئ الطفل لاستقبال المعلومات من أهله. على سبيل المثال: “هل ستكون الحالة النفسية لطفلٍ عائدٍ من مدرسته، فتستقبله والدته بحضنٍ كبيرٍ وابتسامةٍ مذهلة؛ مشابهةً للحالة النفسية لطفلٍ آخر تستقبله أمُّه بالأوامر والتوجيهات الممِّلة؟”.
2. التربية حالةٌ تراكمية:
لا تنتظر نتائج مذهلةً من البداية، فمن الطبيعي أن يُخطئ الطفل، ومن ثمَّ أن يتعلَّم من أخطائه؛ فلا تقع في فخ المثالية، ولا تحرم طفلك من متعة الاستكشاف لمجرَّد خوفك على نظافة المنزل، أو خوفك على أغراضٍ معيَّنة، بل استثمر في تفاصيله الفطرية، وشاركه نشاطاته، وشجِّعه خلال ممارستها، وحاوره بمواضيع مختلفة، واطلب رأيه؛ إذ يجعل التعامل بلطفٍ ورقيٍّ الطفلَ يشعر أنَّه شخصٌ مستقلٌ ومتكامل، ويتحمَّل مسؤوليَّة أفعاله، ويزيد من ثقته بنفسه.
إن سعيتَ في كلِّ يومٍ إلى إضافة تفاصيل مفيدةٍ إلى شخصية أولادك، وكانت نيَّتك صادقةَ وإيجابية، وعلمتَ أنَّ نتائج التربية تظهر بالتدريج، وأنَّ كلَّ ما عليك هو السعي؛ فعندها ستشعر بالرَّاحة كثيراً.
3. التربية بالحرية:
إنَّه لمن أهمِّ التفاصيل التي تخلق طفلاً مسؤولاً: إدراك معنى الحرية الإيجابية؛ فبدلاً من ترهيب الطفل من الوقوع في الخطأ، أو تركه حراً بطريقةٍ مبالغٍ فيها، وبلا أيِّ قواعد، كأن يفعل أيَّ شيءٍ ومن ثمَّ يُحمِّلَ الأهل نتائج أعماله؛ على الأهل أن يشرحوا له تبِعات الأمر وما يحويه من سلبيات، ومن ثمَّ يعطونه حرية القرار، على أن يتحمَّل مسؤوليَّة قراره. على سبيل المثال: “إن أصرَّ الطفل على تناول الحلويات، حتَّى بعد أن شرح له الأهل مساوئ الإكثار منها؛ فعلى الأهل تركه يأكل ما يريد، وعندما تحصل له مشكلاتٌ هضمية، يقولون له: “نحن نحبُّك، ولكنَّك لم تأخُذ بنصائحنا، واخترت الإكثار من الحلويات؛ لذلك عليك تَحمُّل نتيجة قرارك، وعليك أن تعرف أنَّنا لا نقول إلَّا ما يصبُّ في مصلحتك”؛ لكن على أن يكون الكلام بلغة حبٍّ وخوفٍ على مصلحته، وليس بلغة رفضٍ وانتقادٍ له.
على الأهالي تعلُّم الفصل بين شخص الطفل وتصرُّفه، فلا يوجِّهون الكلام السلبي إلى الطفل بل إلى التصرُّف، كأن يقولوا: “أنت طفلٌ رائع، لكنَّ تصرُّفك في هذا الأمر غير مسؤولٍ”.
4. الرأي المسموع:
من سلوكات زرع حسِّ المسؤولية لدى طفلك: أن تطلب منه أن يأخذ قراره في أمرٍ ما، كأن تطلب منه اختيار مكان الرحلة لهذا الأسبوع، ومن ثمَّ تقيِّم العائلة بعد انتهاء الرحلة اختياره، وتُحدِّد إيجابياته وسلبياته.
من شأن هكذا تصرُّف أن يُعزِّز المسؤولية لدى الطفل، ويجعله قادراً على إعطاء قراراتٍ أكثر صحَّة.
5. مسؤولية الدراسة:
تُشكِّل الدراسة للكثير من الأطفال مصدر قلقٍ واضطرابٍ وتوتر، فتجدهم لا يتحمَّلون مسؤوليَّة واجباتهم المدرسية، بل يلقون بالعبء على أهلهم، وهذا الأمر نتيجةٌ لسلوكات الأهل غير المدروسة، فهم لم يخلقوا لأطفالهم طرائق ممتعةً من أجل استقبال المعلومة، بل اكتفوا بالشكل التقليدي للتعليم، وزرعوا في عقول أطفالهم أنَّ ما يهمُّ الدرجةُ وليس المعلومة؛ ممَّا جعل الأطفال في حالة ركضٍ لاهثٍ للحصول على الدرجات وليس المعلومات، فتحوَّلوا إلى روبوتاتٍ تُتقِن الحفظ دون الفهم، وتشوَّهت علاقتهم مع الكتاب؛ لأنَّه يُذكِّرهم بالمدرسة وضغطها.
كان الأحرى بهم أن يبتكروا طرائق مسليةً لإعطاء المعلومات، كأن تُعلِّم الأم ابنها أسماء الخضار باللغة الإنكليزية، وتدعه يشاركها في إعداد الغداء، فهي بهذا تربط لديه العلم بالتسلية، وتجعل حالة التعليم ممتعةً بالنسبة إليه؛ أو أن تشاركه اللعب وتنسج معه قصةً خيالية، مُستعينين بالمفردات التي تعلَّمها في المدرسة، لتخلق لديه رغبةً بتعلُّم مزيدٍ من المفردات، ونسج مزيدٍ من القصص، وستصنع رابطة قويةً بينه وبين الكتاب.
لا يعرف أغلب الأطفال الهدف من ذهابهم إلى المدرسة؛ لذلك على الأهالي العمل على خلق مشكلةٍ ما، على أن يكون حلُّها موجوداً في مادةٍ من مواد الطفل الدراسية، وبالتَّالي يبيِّنون للطفل أهميّة العلم وروعته. على سبيل المثال: أن يطلب الأب من ابنه قراءة خبرٍ ما على التلفاز، بينما لم يتعلَّم الابن القراءة بعد، فيقول له: “أرأيت لو أنَّك التزمت أكثر بمادة القراءة التي تتعلَّمها في المدرسة، لكنتَ تمكَّنتَ من قراءة الخبر الآن”؛ فهو يخلق بذلك الدافع لديه للتعلُّم؛ لأنَّه شعر بأهميَّة العلم.
6. تبدأ المسؤولية من السنوات الأولى للطّفل:
ابدأ تكليف مهام معيَّنةٍ لطفلك منذ سنواته الأولى، على أن تكون المهام محدَّدةً وتفصيلية، لكيلا يضطرب الطفل ويشعر بصعوبة تنفيذها.
تستطيع في البداية مشاركته عند القيام بها بطريقةٍ مسليةٍ وممتعة، كأن تساعده في ترتيب غرفته بينما تغنُّون سوياً؛ ولا تنسَ الانتباه إلى كامل سلوكاتك، فأنتَ قدوةٌ لطفلك في كلِّ شيء، فلا تعرِّضه إلى التناقض، كأن تقول له شيئاً ما ويراكَ تفعل شيئاً مُعاكساً له.
من جهةٍ أخرى، يجب أن يُشارِك الطفل والديه في صنع قائمةٍ بالمهام اليومية الواجب عليه القيام بها، مثل: ترتيب سريره، وتنظيف أسنانه، والقيام بوظائفه المدرسية، والتحدّث بصوتٍ منخفض، وتغيير ملابسه بعد الرجوع من المدرسة، والنوم في الساعة المحدَّدة، ووضع الحذاء في المكان المخصص له، والاستيقاظ لوحده من أجل الذهاب إلى المدرسة، وتحضير حقيبة المدرسة قبل النوم، وقراءة قصةٍ قصيرة؛ وأن يكتب هذه المهام على لوحٍ في غرفته ويلتزم بها، بحيث تكون لكلِّ مهمَّةٍ علامةٌ محدَّدة، فيجمع الطِّفل في نهاية اليوم درجاته ويضعها في خانة المجموع؛ كما يوجد خانةٌ تُدعًى “علاوات”، وهي علاماتٌ إضافيةٌ تُعطَى في حال النجاح في منافساتٍ معيَّنة، مثل: السباحة والرِّسم وغيرها. يجمع الطفل في نهاية الأسبوع مجموع درجاته في كلِّ يوم، ويحصل بناءً على المحصلة النهائية على مكافأةٍ معينةٍ مساويةٍ لها.
يتعلَّم الطفل بهذه الطريقة بأنَّه المسؤول عن حياته؛ فإن سعى واجتهد أكثر، فسيحصل على مكافآت أكثر.
كما لا ينبغي أن تكون المكافأة ماديَّة فحسب، بل معنويةً أيضاً؛ كأن تحضن الوالدة طفلها بعد قيامه بعددٍ كبيرٍ من المهام الموكلة إليه، وتقول له كلاماً إيجابيَّاً مُحفِّزاً.
الخلاصة:
اعلم أنَّ التربية متعةٌ وفن، وأنّك بقدر ما ستسعى إلى خلق طفلٍ متوازن ومسؤولٍ ومستقرٍّ نفسياً وجسدياً منذ البداية؛ بقدرِ ما سترتاح في أيامك المُقبلة، وتُسعَد برؤية النتائج المُرضية لتربيتك تتجلَّى أمامك من خلال أولادك الناجحين.
المصادر: 1، 2، 3، 4