مصراتة- لا تزال مئات الجثث لمقاتلين في صفوف تنظيم الدولة الإسلامية محفوظة في حاويات مبردة في الهواء تحت حماية مشددة، وجمعت هذه الجثث داخل 9 ثلاجات بإحدى الإدارات التابعة لوزارة الداخلية في مدينة مصراتة.
وقتل هؤلاء العناصر من تنظيم الدولة (وعددهم 700) على أيدي قوات عملية “البنيان المرصوص”، التي أطلقتها حكومة الوفاق وانتهت بالقضاء على التنظيم في مدينة سرت، أحد أكبر معاقله بليبيا في ديسمبر/كانون الأول 2016.
وتتوزع الحاويات المبردة على قطعة أرض مساحتها 1500 متر، وتحتوي كل حاوية منها على 80 جثة، بعد أخذ كافة الأدلة التي تسمح بالحفاظ على الجثث، وتوثيقها، وتصويرها، وجمع عينات من الحمض النووي، قبل وضعها في الثلاجات وتثبيت رقم يسهل عملية الوصول إليها.
يقول مدير وحدة التعرف على الجثث المجهولة صلاح المدهم إنهم تعرفوا على هوية 51 جثة فقط، ويوضح أن القتلى يحملون جنسيات ليبية، وتونسية، ومصرية، وجزائرية، ومغربية، وأردنية، وسودانية، ونيجرية، وتشادية، وصومالية، وأميركية، وفرنسية، وبريطانية.
ويؤكد المدهم -في حديثه للجزيرة نت- أنه بعد 6 سنوات على طرد التنظيم المتشدد من المدينة، فلا تزال هذه الجثث مرهونة بمفاوضات تجريها السلطات الليبية مع حكومات بلادهم، التي تتعامل مع الموضوع بحساسية بالغة.
وعن معوقات حفظ هذه الجثث مدة طويلة يوضح المدهم أن بعض آلات التبريد التي توجد فيها الجثث تتعطل باستمرار نتيجة الانقطاع المتكرر للتيار الكهربائي، وأن هذه المبردات مستعارة من شركات خاصة، وأصحابها يطالبون بها. وهي في الأصل مخصصة لحفظ الطعام وليس الجثث؛ “فالإدارة التي تتحفظ على هذا العدد الكبير من الجثث لم تكن مجهزة بشكل كاف، في الوقت الذي ترفض فيه الدول -والبالغ عددها 19- تسلم جثث مواطنيها”.
ويستطرد في حديثه بالقول إنه قضى 8 أشهر بين السجون التي يحتجز بها عناصر التنظيم، برفقة مجلد الصور الخاص بالجثث التي يتحفظون عليها، للتعرف على الضحايا عن طريق المساجين. ويوضح أن طول المدة كانت بسبب عدم رغبة نساء عناصر التنظيم في الحديث أو التعرف على ذويهم.
جثث مجهولة المصير
أثمرت جهود بذلتها حكومة الوفاق السابقة مع نظيرتها المصرية في مايو/أيار 2018 عن تسليم رفات 20 مسيحيا قتلهم تنظيم الدولة على شواطئ سرت عام 2015، ونشر مقطعا مصورا لعملية القتل.
وزار وفد رسمي من الحكومة الإثيوبية مصراتة أواخر ديسمبر/كانون الأول 2019، وبحث مع إدارة التحري والتحقيقات الجنائية ملف جثث الإثيوبيين الذين أعدمهم التنظيم في 2015، واستخرجتهم الإدارة من مقبرة جماعية بسرت في ديسمبر/كانون الأول 2017ـ ويبلغ عددهم 34 جثة.
وحول تلك المباحثات، يقول مسؤول المبردات علي طويلب إن زيارة الوفد الإثيوبي كانت للتأكد من صحة وجود جثث من عدمه، ويضيف “طلبنا من الوفد إحضار عينات من ذوي الضحايا؛ لمطابقتها مع العينات التي نحتفظ بها، ولكن بعد زيارتهم الأخيرة تبين عدم جديتهم في تسلم رعاياهم”.
وشدد طويلب -في حديثه للجزيرة نت- على ضرورة التعجيل بدفن الجثث بعد توثيقها جنائيا، مبررا عدم دفنها حتى الآن بتعذر الحصول على مكان مخصص لدفن الجثث بعد موافقة مكتب النائب العام. ويشير إلى أنه “الحل الوحيد الذي يحفظ كرامة الجثث، ولكن هذا القرار يحمل صعوبات جمّة لتنفيذه”.
عودة النازحين لسرت
جاء “علي مفتاح” إلى حي الجيزة في سرت وهو يتأهب للعودة، حيث تحدث -للجزيرة نت- عن دمار المدينة بشكل كامل، قائلا إن المسؤولين لا يريدوننا أن نعود بحجة وجود مادة اليورانيوم، لكنه عبر عن شعوره بالسعادة بعد طرد مقاتلي تنظيم الدولة من المدينة؛ آخر معاقلهم، وقال “لقد عدنا إلى منازلنا من جديد، وهو بالتأكيد أفضل من أن نبقى في سكن مستأجر”.
وكان تنظيم الدولة الإسلامية سيطر على سرت في 2015 مستغلا الاقتتال الداخلي بين الفصائل المسلحة الليبية. وكانت المدينة هي القاعدة التي شن منها التنظيم هجماته، وتمكّن من التوسّع من دون أي عوائق، في ظل انشغال الجانبين بالقتال بينهما.
هويات الجثث
وعن حفظ الجثث يقول أستاذ القانون الدولي موسى القنيدي -للجزيرة نت- إنه قد يكون قرار الاحتفاظ بالجثث وعدم التصرف فيها أمر غير جيد، “ولكن على المدى البعيد ربما يفيد في التواصل مع الدول لتسلم جثث رعاياها، ولإثبات أن الإرهاب وخطره ضرب ليبيا من الخارج، ومن دول الجوار، بعيدا عن عناصر ليبية قليلة العدد انخرطت مع داعش على سبيل المثال”.
ويعتقد القنيدي، المعني بالقضايا الحقوقية والإنسانية في ليبيا، أن الاتفاقيات الدولية تنص على ضرورة سعي البلدان إلى تحديد هويات الجثث. وأن على النائب العام الليبي العمل على تحديد أماكن المفقودين وهوياتهم حسب القانون الليبي. ويضيف “ينبغي إطلاق عملية لتحديد الهويّات قائمة على الحمض النوويّ لمن لم يتمكنوا من التعرف عليهم”.
من ناحيته، يؤكد عميد بلدية سرت مختار المعداني أن المجلس البلدي يعقد اجتماعات متواصلة لمناقشة عدد من المشاريع لمساعدة الأهالي في العودة.
ويقول المعداني -متحدثا للجزيرة نت- إن “التحدي الأكبر هو إعادة مقومات الحياة بعد تدمير البنية التحتية”. مضيفا أن تأهيل هذه المرافق يتطلب وقفة جادة من الحكومة، خاصا بعد قرار مجلس الوزراء بحكومة الوحدة الوطنية إنشاء صندوق سيادي تحت مسمى “صندوق إعمار سرت” بقيمة مالية تبلغ نحو مليار دينار ليبي، “كما يجب إجراء عملية مسح شاملة للمنطقة لوجود الألغام ومخلفات الحرب فيها”.